وكم من الفضل لهيكل عليَّ، فلقد سلخت في قراءة كتابه (منزل الوحي) أياماً كنت أعيش فيها في عهد النبوة، ولقد مررت بهذه البقاع التي يصفها، وأثارت في نفسي عوالم من الذكريات والآمال والخواطر، فإذا أنا أجدها كلها وأجد أكثر منها في كتاب هيكل. . .
هذه هي الواحات التي لقيتها في صحراء حياتي، في سفر الثلاثين سنة، فلولا عالم لإمرتين أنفذ إليه من خلال نفس الزيات ولغته البارعة، وأسلوبه السماوي الذي أسمع غناء كلماته وهتافها في كل جملة، حتى كأن كل كلمة يقرنها الزيات بأختها عروس تزف إلي بعلها؛ فأنت حين تقرؤه أبداً في عرس، تشم عطره، وتسمع غناءه، وتحسَّ في نفسك طربه. ولولا معروف وعبقريته، ولولا هؤلاء المؤلفين الذين قبست منهم السعادة والاطمئنان، كانت حياتي صحراء قاحلة، وما كنت أطيق الحياة. أفليس أكبر المكافأة للكاتب أن يعيش على آثاره للناس؟
يا رحمة الله على تلك الأيام. أيام كنت أغلق فيها بابي عليّ. . . ثم أقبل على كتبي أجالس فيها العلماء والأدباء، وأجد في حديثهم الصامت لذة ومتاعاً. كنت أقرأ لأني كنت أجهل الحياة، فلما عرفتها لم أعد أطيق قراءة ولا بحثاً. ولماذا أقرأ؟ ولماذا أتعلم؟ ولماذا أكون فاضلاً والحياة حرب على أهل العلم والفضل، والناس كالحياة لأنهم أبناؤها وتلاميذها
إلا يحيا الكاذب المنافق سعيداً موقراً، ويموت الصادق الشريق فقيراً محتقراً؟ ألا يصدق الناس الشيخ المشعوذ لأنه يدخل إلى نفوسهم من باب الدين ويكذبون العالم الفاضل؟ أليس طريق الشعبذة وادعاء الكرامات والمخرقة على الناس بعلم أسرار الحروف، واستحضار المردة، واستخراج الجنّ من أجسام بني آدم، آثر عند عامة الناس من العلم الصحيح والأدب المحض؟ ألا يتمتع هذا اللص بالثقة التي لا يحلم بها عالم متخصص أو باحث مدقق، وتنهال على يده الأموال، وتزدحم على يده الشفاه؟ إلا يبلغ المنافق ذو الوجهين أعلى المراتب وأسماها ويبقى الصادق الشريف في الحضيض؟ ألا يركب الجاهل في السيارة الفخمة، ويسكن القصر العظيم، ويحتل المرتبة العلمية العليا، ويمشي العالم إلى بيته الحقير لا يدري به أحد؟
أليست أسواق الرذيلة عامرة دائرة، وأسواق الفضيلة دائرة بائرة؟
إلا يظفر الكاذب المفتري بالبريء؟ ألا يغلب القوي الضعيف؟ ألا ينتصر المال على العلم؟