للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[في الغاب]

للأستاذ عبد الحليم عباس

قلت لصاحبي، ونحن نعتسف الغاب، نطامن من رأسينا لنتقي أذرع الشجر المتشابكة والممتدة في غير استواء، ونراوغ في السير مخافة أن نصطدم في فرع شائك، أو تزل بنا القدم في هذه الأرض الوعثاء. يشبه السير في الغاب، السير في الحياة. أعني، لابد من المراوغة. فعقب وهو ينحى فرع شجرة، ولابد من أن يطامن المرء من رأسه - كما أفعل الآن - لينجو من الصدمة. . .

- حسن، فنحن في هذه الغاب، نمثل قصة الأحياء، أعني أن كل حي يطامن من رأسه - في حال من الحالات - ويراوغ في مشيته، في شوطه المقدور، في دروب الحياة، كما نفعل الآن، حذوك النعل بالنعل، هذا إن أراد أن يستقيم معه الأمر. وإن ركبه الغرور فمشى رافع الرأس، مستقيم الخطوة، فلابد من صدمة يبين أثرها في وجهه، أو في جسده أو. . . يخر صريعاً إن كانت الصدمة قوية بالغة. . . ولكن قل لي هاهنا الشجر والحجر يصدم السائر، وفي الحياة. ماذا؟

- إرادة الأحياء العنيدة الضاربة في النفس، كجذور هذه الشجرة، المستحكمة في باطن الأرض - وراح يهز شجرة سنديان استحكمت ساقها، ونفض من فعل الزمن، ويتطلع فيّ، فعل المفكر المتألم

- إرادة الأحياء لفظة شاملة، وفي الشمول غموض وإبهام. ولكن قل لي: نستطيع أن نجتث هذه الأشجار، فيصبح السير فيها - الغاب - بخطوات مستقيمة وخدود مصعرة، وقلوب أمنت أن يفاجئها من بين ملتف الشجر، وخفي الأحجار حيوان مؤذ مفترس، فكيف نجعل الدرب في الحياة كهذه؟ أتنفي منها إرادة الأحياء؟ ومعنى هذا أن ننفي منها الأحياء. وقد قال بهذا كثير من المفكرين، ولكن قولتهم هذه لم تتحقق في الواقع، لأن الحياة أقدر على المحافظة على ذاتها من أن تذهب وتمحوها كلمة من يائس

- فماذا تمحو من الحياة؟

- شيئاً واحداً ليصبح السير فيها كالغاب بعد أن تجتث جذور أشجارها

فزم ما بين عينيه، وقال: أمحو منها القوة، فيصبح الإنسان آمناً، والأمن هو الحياة. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>