لعل هذه أول صورة انطبعت في ذاكرتي منذكريات الحياة كلها. أذكر أنني وجدتني جالساً في مكتب (كتاب) قريب جداً من داري إلى جانب ابن أختي، ولست أدري لماذا أستصحبني إلى مكتب الفقيه وأنا في مستهل نشأتي وفجر طفولتي؟ وكان الأطفال في هرج ومرج لا أعرف لهما سبباً، بل لعلي عرفت السبب فيما بعد، فقد كان غياب الفقيه فيما أظن سبب ذلك الاضطراب، ولم يكن عريف المكتب على ضخامته وطول قامته بقادر على السيطرة على أولئك الأشقياء الخبثاء، ولعل الأطفال كانوا يسخرون به لأنه أشل (أعني أن إحدى يديه ولعلها اليسرى شلاه)، ولا أدري كيف حاول أن يثبت مسماراً في الحائط فلم يجد شيئاً يدقه به، فلما ضاقت به الحيل عمد إلى محبرة سميكة، وكأنما خيل إليه أن ضخامتها ستحميها من الكسر، ولعله نسي أنها من الزجاج المفرغ، وأنها لن تقوى على دق المسمار، على أنه لم يكد يبدأ الدقة الأولى حتى خرق المسمار المبحرة وسال مدادها الأسود على وجه العريف ويديه وثوبه!.
فهلل الأطفال وصيحوا وصفقوا من فرط سرورهم بما رأوا، ولا زالت صورة العريف ماثلة أمامي، منطبعة في ذاكرتي، وأنا أملى هذه السطور، كأنما رأيت منذ لحظاتيسيرة وهو يحاول جهده أن يهدئ من ثائرة الأولاد، فلا يزيدهم ذلك إلا تمرداً وصخباً، وقد زادتهم حيرته وارتباكه نشاطاً ومرحاً. وهنا يدخل الفقيه، وهو شيخ رائع السمت، فارع الطول، متجهم الوجه، قوى الشخصية، فيسود الصمت والفزع، ويستولي علينا الخوف والهلع، ويتبدل كل شئ في لحظة واحدة من الضد إلى الضد، فلا يكاد يجرؤ أحد على التنفس خشية أن تسمع نأمئه فتجلب عليه شراً مستطيراً، ويأمر الفقيه بإحضار (الفلقة)، ولا يكاد ينتهي من خامس الأولاد في الصف الأول، حتى تعتريني القشعريرة، فقد جاء الدور على، وإني لأترقب إشارة الفقيه بوضع رجلي في حبل الفلقة، وقد استولى الذعر على نفسي، إذا بجلجلة أشبه بقصف الرعود، وصيحات عالية مدوية تأخذنا من كل مكان وإذ بسقف المكتب يطير كل مطار، وقد تناثرت ألواحه وتطايرت أركان الجدران وقواعده، واختفى