الشيخ والعريف وصبية المكتب في لحظة واحدة عن عيني فلم أدر أين فروا!
وما أذكر بعد ذلك إلا أنني كنت أمشى مع ابن أختي في طريقنا إلى البيت والأحجار تتناثر من حولنا في كل مكان، فتقتل من تقتل ونحن لاهيان لا ندرى من أمرنا شيئاً. فلما بلغنا الدار - وهى قريبة من جبل المقطم - إذ بالهلع يستولي على كل من فيها، وإذ بزجاج النوافذ محطم. وأذكر أنني سألت ابن أختي عما حدث فقال لي: إن القيامة قد قامت! ولم أفهم حينئذ معنى هذه الحملة، ولا عرفت ما هي القيامة، ولا كيف تقوم، ولعلى لم أفهم معناها الغامض أكثر مما يفهم السامع الخالي الذهن حين يقال إن نائماً صحا، أو صاحياً نام، أو زائراً قدم، أو قاعداً قام. ولم أفهم حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات عدة، فقد عرفت والعهدة على من حدثني، فلم أستق الخبر حينئذ إلا من حوذي كان عندنا، وقد كان رحمة الله عليه نصف أمي إذا وزنته بميزان الثقافة والإطلاع، ونصف فيلسوف إذا وزنته بميزان الفهم والإدراك. حدثني ذلك الفيلسوف الأمي قال: (كان يشتغل في مخزن الذخائر الحربية الملاصق لجبل المقطم أحد العمال، فألقى على غير انتباه بما تبقى من لفافة التبغ، فلم تلبث أن علقت بما حولها من البارود، فوقعت الكارثة وأطارت من حجارة المقطم ما أطارت، وقتلت من الأناس والحيوان من قتلت، ودمرت من الآثار ما دمرت. وكان الحوذي يشير بإصبعه إلى رؤوس المآذن التي طاحت بها وهى قريبة من دارنا. لقد كان هول القيامة يتمثل لي حينئذ في عصا الفقيه وقد فرحت بنجاتي منها، فلما كبرت تبين لي أنني فرحت بالنجاة من خطر موهوم، لأنني كنت أصغر من أن يعاقبني الفقيه أو يهم بضربي، فلم أتجاوز الثالثة من عمري حينئذ، ونسيت أنني نجوت من هلاك محقق بأعجوبة من الأعاجيب. وعلى ضوء هذا الحادث الهائل فهمت في قابل أيامي دقائق الصورة البيانية الرائعة التي أبدعها خيال المتنبي شاعرنا الأكبر حين قال لسيف الدولة:
وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم