(ليس أسمج من الرذيلة تكون وجدها في الأرض، إلا الفضيلة
تكون وحدها. . .!)
الرافعي
اطلع إبليس ذات مساء على الأرض؛ يستروح من نسمات الليل والدنيا نائمة - روح الفردوس الذي طردته الكبرياء من رحمته. وانبث زبانيته ينفثون الشر عن أمره في أوكار الظلام؛ ففي كل منعطف شيطان صغير يتربص، وبين كل اثنين ثالث لا يريانه. . .
وسمع إبليس في هدأة الليل عابداً يتهجد، ما يبدأ ولا ينتهي من سجدة إلا لعن الشيطان. . .!
وأحس إبليس لعنات الشيخ العابد تنصب عليه كما ينهال التراب على نار تتلهب، أو ينصب الماء على جمرة تؤجج
وصرت أسنان الشيطان من الغيظ، وانقدح من حجاجيه شرار كاللهب، أن عجز وعجزت زبانيته معه عن فتنة مثل هذا الشيخ الزاهد وإرادته على أن يتعلق بحظه من الدنيا وشهوات النفس، على حين لم يعجز الشيطان أن يطرد أباه من الجنة!
أفكان يعصم الشيطان من اللعنات أن يسلط على الناس جميعاً شهواتهم ويغري بهم أنفسهم؟ فكيف وإن عباده من أهل الغواية والمعصية ليذكرونه باللعنة على مقدار ما ييسر لهم شهواتهم ويضاعف لهم من مسراتها؛ وإنهم ليسرعون إلى لعنته إسراعهم إلى طاعته. . .؟
وهبّت نسمة السحر تعطر الدنيا بأنفاس الجنة، فاستروح منها إبليس روح الماضي يذكره أيامه كلها منذ بدء الخليقة ويلقي التاريخ بين يديه. وتغشه الذكرى وعاد الزمان القهقري أمام عينيه؛ فإذا هو ملك بين الملائكة يسبحون بحمد ربهم حافين من حول العرش؛ ثم إذا هو يفسق عن أمر ربه أبياً مستكبراً أن يسجد لبشر من طين؛ وإذا هو من بعد مطرود من رحمة الله، مذموم مدحور يلعنه الفضاء ويسبُّه الأبد؛ ثم ينفث نفثته في صدر حواء فينزلها وزوجها عن الجنة فيخرجهما مما كانا فيه، ويتعقب أبناءهما من بعدهما على الأرض