النفس سر الله في خلقه وآيته في عباده، ولغز الإنسانية الذي لم يحل بعد، وقد لا يحل يوما ما. هي مصدر المعارف المختلفة والمعلومات المتباينة، ولكنها لم تسم إلى أن نعرف حقيقتها معرفة صادقة يقينية؛ وهي منبع الأفكار الواضحة الجلية، إلا أن فكرتها عن ذاتها مشوبة بقدر كبير من الغموض والإبهام. ومع هذا فالإنسان منذ نشأته تواق إلى تعرفها جاد في تفهمها، ولا يزال حتى اليوم يبذل قصارى جهده في إدراك كنهها والوقوف على أمرها. وبوده أن يعرف في دقة ماهيتها ويدرك الصلة بينها وبين الجسم ويتبين مصيرها ومآلها. وكيف لا وهو طلعة يحب أن يعرف كل شيء، وهو في معرفة الأشياء المجهولة والأمور المستترة أرغب. وإذا كان قد خطا خطوات فسيحة في سبيل فهم الطبيعة وتوضيح آياتها فنفسه التي بين جنبيه أولى بالبحث والتوضيح، هذا إلى أنه مدني بطبعه لا يستطيع أن يعيش بمعزل عن إخوانه وذويه، ومعرفته لنفسه كثيراً ما تعينه على تفهم بني جنسه، وكم بذل الأخلاقيون والمربون من جهد في تحديد الدعائم النفسية التي يقوم عليها إصلاحهم ووعظهم وتعليمهم وإرشادهم. والأديان والشرائع تخاطب النفوس قبل أن تخاطب الأبدان، وتتجه إلى الأرواح أكثر من اتجاهها إلى الأجسام. والثواب والعقاب والمسؤولية الأخلاقية والدينية بوجه عام تدعو إلى التفكير في الروح وخلودها ومآلها بعد مفارقة البدن. ففي أحوال الإنسان الفردية وظروفه الاجتماعية وأبحاثه العلمية وتعاليمه الدينية ما يدفعه إلى كشف ذلك السر الذي أودعه الله فيه والذي آمن به الناس جميعا دون أن يروه.
لهذا كان موضوع النفس شغل الباحثين والمفكرين في مختلف العصور؛ وليس ثمة فيلسوف إلا أدلى فيه برأي وتعرض له بالبحث والتحليل، وربما كان في تاريخه ما يلخص تاريخ الفلسفة بأسرها. بيد أن أبن سينا، فيما نعتقد، قد عني به عناية كبيرة لا نجدها لدى واحد من رجال التاريخ القديم والمتوسط. حقاً إن أفلاطون تحدث عن النفس في محاورات عدة ووقف على خلودها محاورة مستقلة؛ وكتاب أرسطو في النفس ومؤلفاته المسماة (بالطبيعيات الصغرى) تصعد به إلى مرتبة أسمى عالم نفسي عرف في التاريخ القديم. ولم