إن تاريخ اللغة العربية أعجب من العجب، فقد مر بها عهد قدرت فيه على أن تغزو قلوباً من الجفاء بمكان. ونستطيع أن نحكم بأنه لم يتفق لأية لغة من اللغات الغنية أن تجتذب الغرباء كما اتفق ذلك للغة العربية. وصحة هذا الحكم في غاية من الوضوح والجلاء. فالإنجليز مثلاً سيطروا على كثير من بقاع الأرض، ومع هذا لم يتيسر النبوغ في الأدب الإنجليزي في البيئات الأجنبية لغير آحاد. وكذلك يقال في الأدب الفرنسي، فالنبوغ فيه مقصور على أهله، ولم ينبغ فيه من الأجانب غير أفراد
وقد قلت مرة إن الفرنسيين لا يعترفون بالأدب البلجيكي ولا يعدونه من الأدب الفرنسي إلا بتحفظ، مع أن البلجيك يتكلمون بلغة الفرنسيس منذ أجيال
فما هي الأسباب التي جعلت لغة العرب لغة محبوبة يتسابق إليها الأجانب؟ وكيف أمكن أن تكون الكثرة من أدباء اللغة العربية ترجع إلى أرومات عربية؟
السبب الظاهر هو الإسلام، وهو دين لا يعترف بالعصبية القومية، ولا يقيم لها أي ميزان، فمن حق المسلم في أي أرض أن يقول إنه من ورثة الرسول، ومن حقه أن يتسامى إلى المنازل العالية ما دام يعتصم بمبادئ الدين الحنيف
ولكني أعتقد أن هذا السبب الظاهر تؤيده أسباب خفية موصولة بروح اللغة العربية، فهي لغة خلقت للحياة ولم تخلق للموت، بدليل أنها لم تنهزم بانهزام الإمبراطورية الإسلامية، وهي إمبراطورية لم تسيطر على العالم سيطرة حقيقية أكثر من قرنين اثنين، فلو كانت اللغة العربية لم تعش إلا بحراسة الإمبراطورية لوجب أن تزول، ولكنها لم تزل، ولن تزول
للغة العربية خصائص ذاتية تستحق الدرس، فمتى ندرس تلك الخصائص؟ ومتى نعرف بالبراهين القواطع كيف استطاعت الانتصار على الموت، مع أنها تعرضت ألوف المرات