كنت ولداً لأول مرة جلست فيها تحت ظلك يا شجرة السرو حين كانت أسراب الحمام تفتح أجنحتها للريح فاتبعها من روحي بأطيار تشق الأثير متجهة نحو السماء.
وهأنذا أتقدم اليوم ببطء تحت أغصانك لأطرح على الأرض جسدي المتعب وقد وقفت روحي عن تباع الطيار في اعتلائها. لقد صار الولد شيخاً.
لم تزل تظللني اغصانك أيتها السروة، وقد أصبح جذعك متكأً ليدي المرتجفة، فاقف مستنداً إليه وأجيل أبصاري بين القبور حيث يرقد أجدادي وحيث أرقد أنا غداً.
ما أجملك، أيتها السروة، وأنت متجهة إلى ما فوق كصلاة المؤمنين، وحينما يمر الهواء بين أغصانك يخيل إلى المستغرق تحت ظلالك أنه يسمع ما تسر إليه قلوب أحبابه وقد استحالت إلى تراب في القبور.
لقد مرت على صداقتنا السنون أيتها السروة الهرمة، ومنذ أول عهدي بك لم أزل أتفيأ غصونك لأناجيك مفكراً في زوال الأيام. أنت أعرف مني بحالي، فأنا أستشهدك على إيماني بالخلود واحتقاري لكل مرتجف أمام الفناء.
أحبك أيتها الأغصان القاتمة. أحبك يا زهرة المدافن لأنك رمز الراحة والسكون لمن أتعبته حركة الحياة.
إلى متى تنطلق روحي من أسرها فتجول في الفضاء الفسيح الغير المتناهي كما تجول أسراب الحمام في آفاقها، فيرتفع مثلها فوق المآذن إلى السحاب إلى ما وراء كل منظور.
هنالك السكون بالارتقاء إلى الأوج الأعلى، حيث لا شقاء ولا خداع. تقدم يا ملاك الموت وأطرق الباب فإن وراءه روحاً أهرمها الدهر وهي مستعدة للرحيل.
أيها الهواء الهاب على أغصان السروة القاتمة كأسرار الأبد، كل يوم أنتظر منك مناجاتي بساعة موتي وأنت في أنينك ساكت عنها لأنها في علم الله.