تحدثتُ في فصلٍ سابقٍ عن المعنى، وأنه العنصرُ الأولُ من عناصر الشعر، بل هو الشعرُ نفسهُ، وقلت: إن الألفاظ ليست إلا ثوباً يحيط به، ويقدر على أجزائه، وأن حُسنها وروعتها ليست إلا وسائل يقصد بها استمالة القلوب النافرة، واجتذاب الميول الجامحة
ولست أريد بالمعنى أي معنى يخطر بالخاطر، وأول ما تتحدث به نفس الشاعر، والحقائق المجردة الأصلية التي تقع في الفكر لأول مرة قبل أن تتصرف فيها الملكة الفنية، فإن ذلك لا يسمى شعراً وليس منه في قليل ولا كثير، لأن هذه المعاني مشتركة بين جميع الأذهان، ولا فضل للشاعر فيها على غيره؛ وإنما يقصد بنظمها ضبط الحقائق المتفرقة، وضم المسائل المنتثرة على من أراده، لا التأثيرُ في العاطفة الذي يقصد إليه الشاعر بشعره، ومن ذلك قول المرحوم حافظ بك إبراهيم:
البرلمان تهيأت أسبابه لم يبق من سبب سوى المفتاح
وقوله من قصيدة يودع بها صاحب الدولة المرحوم سعد زغلول باشا في بعض أسفاره لمفاوضة الإنجليز:
الشعب يدعو الله يا زغلول ... أن يستقلّ على يديك النيل
وقوله في هذه القصيدة أيضاً:
فزعيمهم شاكي السلاح مدجّجٌ ... وزعيمنا في كفه منديل
وقوله يمدح ثلاثة من الأغنياء قد وقفوا بعض الضياع على إحدى المدارس المصرية:
ثلاثة من سراة النيل قد وقفوا ... على مدارسنا سبعين فدانا
وخالفوا سنةً في مصر شائعةً ... جرّت على العلم والآداب خسرانا
فإن عادتهم في مصر أن يقفوا ... على القبور وإن لم تحو إنسانا
فهل ترى فرقاً بين تلك الأبيات والأخبار التي تقرؤها في مختلف الصحف إذا نظمت على أجزاء العروض وبحوره؟
وكذلك قول المرحوم أحمد شوقي بك في قصيدته التي أستقبل بها مصر حين عاد من الأندلس: