نعت لنا الأخبار منذ قليل المغفور له الدكتور ألفرد بتلر المؤرخ الإنجليزي الكبير والعالم بالآثار المصرية.
وقد كان ذل الرجل العظيم إنجليزي الجنس واللغة، ولكنه كان مصري العقلية عربي الثقافة؛ قضى الشطر الأكبر من حياته منصرفاً إلى دراسة الحياة في وادي النيل وتاريخ حضاراتها الغابرة، حتى لقد قيل إن عاطفته كانت في قرارتها مصرية، فكانت آخر أنفاسه متجهة إلى النيل، وآخر أمنياته منصرفة إلى التملي به وتنسم نسماته.
وقد كان ارتباطه الروحي والعقلي بمصر وواديها داعياً إلى أن تكون كل آثاره العلمية مرتبطة بها، فليس له مؤلف لا يتصل بمصر وتاريخها وآثارها، وكان همه الأكبر منصرفاً إلى تلك الفترة التي تتعسر دراستها على الأكثرين، وهي فترة الحكم الروماني الأخير وأول العصر الإسلامي، فألف كتاباً في الأديرة والكنائس المصرية، وكتاباً آخر في تاريخ الفتح العربي لمصر؛ ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن تاريخ مصر في هذه الفترة مدين أكبر الدين لهذا المؤلف الكبير، إذ لولا دراسته العميقة وعقله الكبير وعلمه الواسع لظلت هذه الفترة من أظلم فترات تاريخ هذه البلاد.
لقد فقدت مصر استقلالها على يد الرومان بعد أن استولى عليها قيصر وذهبت دولة البطالسة عنها، ودخلت منذ ذلك العهد في دائرة الدولة الرومانية الكبرى، واختفى تاريخها في غمار تاريخ الدولة المتبوعة، ومازالت بعد ذلك تنحدر على جوانب الحوادث من هوة إلى هوة كما تنحدر البلاد التابعة المغلوبة في كل عصور التاريخ، وغطت على صورتها ركام من آثار المظالم والمهانة والاضطراب.
فإذا كان الدكتور بتلر قد استطاع أن يستخرج صورة مصر في تلك الحقبة من طبقات تلك الركام، فقد أدى أكبر خدمة لأبنائها، فليس من الهين أن يستطيع باحث الوصول إلى مثل هذا الكشف، ولاسيما إن كان يحيط بعلمه الظلام والإبهام وتقادم العصور.
على أن ظلام تلك العصور التي جلاها الدكتور بتلر لم يقتصر أثره على إخفاء معالم تاريخ البلاد، بل لقد أدى إلى نتيجة أشد ضرراً وأقسى وقعاً؛ وذلك أنه قد نشأت في هذه الأثناء