كان المسبحي رجل حرب ورجل قلم، وكان سيل أسرة حّرانية نزحت إلى مصر قبل قيام الدولة الفاطمية، واستوطنت مصر وسطعت فيها؛ وكان إحدى هاته الشخصيات القوية البارزة التي كانت الدولة الفاطمية أبان قوتها وفتوتها تحشدها حولها، وتوليها ثقتها وعطفها، وتؤثر أن تختارها من غير المصريين البلديين. بيد أن المسبحي كان مصرياً بمولده، مصرياً بتربيته وبيئته، وقد خصص حياته ومواهبه الممتازة لدراسة مصر وأحوالها وتاريخها، ولو لم يذهب الزمن بآثاره ولا سيما بموسوعته الضخمة عن تاريخ مصر، لكان بين يدينا الآن أعظم أثر عن مصر وتاريخها في المرحلة الأولى من الحكم الفاطمي، أعني مرحلة العظمة والبهاء.
ولد المسبحي بمصر حسبما ذكر في تاريخه ونقل إلينا الرواة المتأخرون في العاشر من رجب سنة ست وستين وثلئمائة (٩٧٧م)، وهو الأمير المختار عز الملك محمد بن عبد الله ابن أحمد بن إسماعيل المعروف بالمسبحي، ولم نعثر على تفاصيل عن حياته الأولى ولا تربيته وتكوينه، ولكن يبدو لنا من آثاره التي نسبت إليه، والتي انتهت إلينا شذور منها أنه تلقى ثقافة أدبية علمية واسعة متعددة النواحي، كذلك يظهر أن المسبحي بدأ حياته العامة جندياً ورجل ادارة، لأنه كان يرتدي زي الجند، ولأنه تقلد بعض المناصب الإدارية الهامة، وقد ذكر لنا المسبحي في تاريخه أيضاً، أن اتصاله بخدمة الحاكم بأمر الله يرجع إلى سنة ٣٩٨هـ، بيد أنه تقلب قبل ذلك في بعض الوظائف الهامة، فتقلد أعمال القيس والبهنسا من أعمال الصعيد ثم تولى ديوان الترتيب وهو يومئذ من مناصب الوزارة الهامة، ثم اصطفاه الحاكم بأمر الله وعينه في بطانته الشخصية في سنة ٣٩٨هـ وكان الحاكم يومئذ فتى في نحو الثالثة والعشرين من عمره، ولكنه كان في ذروة القوة والسلطان والبطش، وكانت هذه الفترة بالذات من أروع فترات حكمه، وفيها فتك بكثير من الوزراء ورجال الدولة (سنة ٣٩٥ - ٤٠٠هـ) ويروى لنا المسبحي نفسه في تاريخه طائفة من الحوادث الدموية التي شهدها في هذا العهد، وكان الحاكم دائم الفتك بالزعماء والكبراء لأسباب تتصل بسياسته