للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العامة أو لريب ومخاوف تساوره، ولكن المسبحي تبوأ لدى الحاكم مركزاً من النفوذ والثقة لا تتطاول إليه الشكوك والريب، ولا تتجه إليه النقمة الغادرة، بل يظهر أن المسبحي كان من أخص خواص الحاكم، حسبما تدلى به الواقعة الآتية التي يرونها لنا في تاريخه، قال:

(قال لي الحاكم، وقد جرى والده العزيز: يا مختار، استدعاني والدي قبل موته، وهو عاري الجسم، وعليه الخرق والضماد، قال فاستدعاني وقبلني وضمني إليه وقال: وأغمى عليك يا حبيب قلبي ودمعت عيناه، ثم قال: امض يا سيدي فالعب فأنا في عافية. قال الحاكم: فمضيت والتهيت بما يلتهي به الصبيان من اللعب إلى أن نقل الله تعالى العزيز إليه).

ويقول لنا ابن خلكان إن المسبحي نال لدى الحاكم حظوة وسعادة، وإنه كانت له مع الحاكم مجالس ومحاضرات حسبما يشهد بها تاريخه الكبير، وتبدو دلائل هذه الصداقة التي توثقت عراها بين الحاكم والمسبحي في كثير مما يرونه المؤرخ في تاريخه وينقله عنه الكتاب المتأخرون مثل المقريزي وابن تغرى بردى عن عصر الحكام بأمر الله، وعن أحواله وتصرفاته الشخصية، ففي كثير من هذه المواطن يبدو المسبحي الصديق المخلص والمستشار الأمين.

وهذه حقيقة تلفت النظر، فإن الحاكم كان أميراً خطر النزعات عنيف الأهواء، وقلما نجا من نقمته أحد من رجال الدولة الذين خدموه. بيد أن الذهبي يقدم إلينا في تاريخه تعليلاً لهذه الظاهرة، هو أن المسبحي كان رافضياً. والروافض فرقة من غلاة الشيعة تغلو في حب علي بن أبي طالب وفي بغض أبي بكر وعثمان ومعاوية ومن إليهم، وقد اختلفت في سبب تسميتهم بالروافض. وهنا نلمس سر هذه الصداقة التي توثقت بين المؤرخ وأميره، فقد كان الحاكم، جرياً على سنة آبائه، يصطفى غلاة الشيعة أبناء مذهبه ويوليهم مناصب النفوذ والثقة، وكان المسبحي يتمتع فوق صفته المذهبية بخلال باهرة تضاعف مكانته، فقد كان عارفاً بعلوم عصره، وكان راوية ومحدثاً ساحراً، وكان أيضاً شغوفاً بعلم النجوم الذي يشغف به الحاكم بأمر الله، وقد وضع فيه أكثر من مؤلف، وهذه كلها عوامل وظروف تلقي أكبر الضياء على طبيعة هذه الحظوة التي نالها المؤرخ في بلاط الحاكم بأمر الله.

وقد استطاعت هذه الخطوة حتى وفاة الحاكم بأمر الله سنة ٤١١هـ، ولا نعرف ماذا كانت صلة المسبحي بالبلاط الفاطمي في الأعوام التالية، والظاهر أنه اعتزل الحياة العامة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>