اهتزت الأرض لما كرث دمشق، وزلزلت الدنيا لما أصابها، وانبرت أقلام بواتر تناصرها في محنتها، وازدلفت إليها الوفود تمسح جراحها، وتلعن جراحها، ولم تبق في المشرق والمغرب صحيفة لم تتل أخبارها، وتصف حريقها ودمارها، وأنا في فراشي قد ملكتني الحمى فلم أشارك قومي في جهاد، ولم أبذل لهم (وطالما كنت باذلا) قلمي هذا الضعيف ولساني.
وكنت أطل من شباكي على دمشق (وداري كما يعلم من يعلم من القراء تعلو عن دمشق ضاربة في الجبل مائتي متر) فأرى مسقط القنابل. وأشاهد مواقع القذائف، وأبصر النار تأكل بلدي الحبيب. والرصاص يحصد حصداً قومي، فأحس في أعصابي فوق الحمى حميات، ولكني لا أقدر على شئ.
ولم أقرأ في هذه البرهة الطويلة مجلة ولا أبصرت (رسالة)، ولا رأيت ممن وفد على دمشق من (الإخوان) الكرام أحداً، ولا حضرت (وقد دعيت) لتكريمهم احتفالا. قد قيدني المرض بفراشي فلا أستطيع له براحا. . . وهذي أول ساعة أقدر فيها على القلم، وأتمكن من خطامه، رأيت فرضا عليّ فيها فرض الاعتراف والوفاء، أن أكتب للرسالة التي أحببتها محبة العاشق، لا أصبر على فراقها، ولا أطيق هجرها. وأحببت صاحبها وأجللته قبل أن أراه. فلما رأيته بعد اثني عشر عاماً تشرفت فيها بمراسلته، والكَتْب في رسالته، وحضرت مجلسه، ورتعت شهرين في جنة نبله وفضله، وأخذت من ماله ومن أدبه، ازددت له حباً وإجلالا. وما رأيت في مصر أديباً، هو أعرب عربية، وأنقى طوية، وأقل لمصر عصبية، وأخلص لبلاد العرب كلها نية، من الثلاثة الأخيار: الزيات وعزام وخلاف. وإن في مصر لكراماً كثيرين وأدباء عرباً مخلصين، وما شحت مصر بالرجال ولكنني أشهد بما رأيت.
جلست لأكتب في محنة دمشق، فرأيتها قد سارت بحديثها الركبان، وامتلأت بها الآذان، ومشت على كل لسان، فكدت أدع القلم، ثم قلت لنفسي، لئن تأخرت اليوم فلقد كنت يوماً