إن المؤرخ الذي يحاول أن يتبع مراحل التطور الفكري في مصر في أيامنا هذه يضطر - بلا جدال - إلى الإقرار بأن حياتنا العقلية تتمخض تمخضا عنيفا، وأن روح التقدم الحقيقي الذي يأبى أن يضرب عرض الحائط بما في تراثنا الثقافي من قيم خالدة - أخذ يتسرب رويدا رويدا إلى مختلف أوساطنا العلمية ولطالما كانت تخامرني هذه الفكرة أثناء إقامتي في الخارج، ولطالما تحدثت عنها - في باريس، وفي فاس، وفي تونس - مع الذين يهتمون بمستقبل الثقافة العليا في البلاد العربية؛ فكنا نتساءل - مع شيء من اللهف - عن مدى انتشار هذه الثقافة، وقوة تغلغلها في الأذهان: هل تظل شيئا سطحيا شكليا، أم تخوض في صميم التعليم فتكيف العقلية؟ ولئن كان هذا التطور يبدو بكل وضوح فيما يخص الجامعة المصرية، لما هي علية - منذ نشأتها - من انسجام مع الروح الحديث؛ فالأمر كان لا يخلو من الغموض فيما يتعلق بالأزهر، وهو المعهد العتيق الذي تركزت فيه منذ قرون برامج كادت - بموجب موضوعها - تتنزه عما يتطور ويفنى. .
ولذا كنت مشغوفا كل الشغف عندما رجعت إلى الديار المصرية - وأنا منكب على دراسة فلسفة القرون الوسطى مسيحية كانت أو إسلامية - أن اتصل بمن يوفقني على تطور التعليم في المعاهد الدينية في هذه المادة؛ وخصوصا في الأزهر الحالي وموقفه من الأبحاث المقارنة التي تسنى لي أن أتبين خطورتها أثناء دراستي في المعاهد الدينية في أوربا، ولذا لبيت - بكل ترحاب - دعوه أحد أصدقائي الأزهريين إلى حضور المناقشة العلمية لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ في التوحيد والفلسفة التي كانت إقامتها مزمعة يوم الأحد ٢٦ مايو سنة ١٩٤٦ في مدرج كلية أصول الدين في القاهرة، ولقد شكرت صديقي أيما شكر لهذه الفرصة التي هيأها لي، فسمح أي أن أجد بطريقة علمية إيجابية جوابا لما أوجهه لنفسي من سؤال، وهذا ليس فقط من جهة الموضوع الذي نوقش فيه (تخريج كتاب الملل والنحل للشهرستاني)؛ بل أيضا من جهة الجو الروحي الذي ساد هذه المناقشة، ومن جهة انسجام العناصر المختلفة التي توفرت فيه: فهناك سعادة الدكتور منصور فهمي باشا - مدير جامعة فاروق الأول سابقا، وكاتم سر مجمع فؤاد الأول للغة العربية - يرأس اللجنة