للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[الفيلسوف الحاكم]

للأستاذ عباس محمود العقاد

شهدنا بعد الحرب عجباً من عجب السياسة والرآسة لم يشهده جيل واحد من تاريخ بني الإنسان

شهدنا موسيقاراً على رأس دولة، وفيلسوفاً على رأس دولة أخرى، وهو قبل ذلك ابن حوذي وتلميذ حداد، ونقاشين وأفقيين على رؤوس دول أخرى يجلسون على عروش القياصرة والخواقين، ويسوسون شعوباً كبيرة بلغ بعضها الذروة من الحضارة والنظام

أحب هؤلاء جميعاً وأولاهم بعطف النفس الإنسانية فيما نظن هو الفيلسوف الحاكم (مازاريك) الذي قام على جمهورية التشك والسلواق بعد الحرب العظمى، وقضى نحبه في الشهر الغابر وهو في السابعة والثمانين

قرأت له قبل أن أسمع الشيء الكثير عن سيرته في الجهاد الوطني وعن مساعيه في السياسة الدولية: قرأت له كتابه الحافل عن (روح الروسيا) فأكبرت منه اطلاعاً واسعاً يخيل إليك أن صاحبه لن يفرغ معه لعمل من الأعمال الجسام. وخلاصة ما يقال في الكتاب أنه لم يدع فيلسوفاً واحداً من الأقدمين أو المحدثين إلا ألم برأيه وتعقب الصلات الفكرية والاجتماعية بينه وبين عقول الدعاة البارزين من فطاحل الروسيين

ووقعت لي بعد هذا الكتاب شذور من تواليفه الكثيرة يكفي لبيان نطاقها الواسع وموضوعاتها المختلفة أنها تناولت التنويم المغناطيسي كما تناولت فلسفة باسكال وهيوم، وتناولت أدب الصقالبة كما تناولت الثورة العالمية، وصدرت في ذلك كله عن صدر رحب بريء من العصبية والضغينة وعن ذهن شامل مفتح المنافذ على شتى الأنحاء

في تاريخ هذا الرجل عبر لا تنتهي لمن شاء أن يتأمل في أخلاق الناس وفي موازين العدل والأنصاف بين الأمم، وفي ضعف الإنسان ولو كان من الحكماء وكان من الحاكمين

كنت أقرأ الثناء عليه وأقرأ الزراية على (روجر كازمنت) الشهيد الأيرلندي في وقت واحد

وكنت أقرأ الثناء والإزراء على عمل واحد في وقت واحد وصحافة واحدة، فأعجب للعقول وأعجب للأهواء، وأعجب لمن خطر لهم أن يقولوا مرة من المرات ولو من قبيل التجوز والمزاح: كل شيء بالعقل في هذه الدنيا!! وما في هذه الدنيا شيء إلا وللعقل فيه حيرة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>