للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البريد الأدبي]

٣ - الشعر الجديد

إني أعتبر الحقبة التي نبغ فيها البارودي وصبري وشوقي وحافظ، من أعظم حسنات الدهر على الشعر. فإن هؤلاء الأفذاذ قد أضاءوا لنا الظلمة الحالكة، بعد أن لبثنا فيها أحقاباً طوالا فالتفت إليهم العالم العربي - ومصر خاصة - التفات الساري إلى النجم المتألق، واستمع لهم وأنصت، وتحلى تغريدهم، وتدبر معانيهم، وفقه مراميهم، واستظهر قصائدهم. ثم لقد ذهبت فينا حكمهم مذهب الأمثال، نرددها في أنديتنا وسوامرنا، ونستعذبها لقربها من قلوبنا، وعلوقها بعواطفنا، وصلتها بأرواحنا

إنهم قد ترجموا لنا حياتنا، وعبروا عن آلامنا وأمانينا، وغنوا لنا في أفراحنا، ورفهوا عنا في أتراحنا، ووصفوا الوصف العجاب، وأبدعوا وجددوا ما شاء لهم التجديد والإبداع

لقد نفخوا في الشعر روحاً، ونفثوا في العربية حياة، وتركوا من ورائهم ثروة زخرت بالنفيس من القول، والفاتن من التصوير، والشريف من المعاني

إنهم لم يعنفوا حين عبروا، ولم يغربوا إذ فكروا، ولم يكن الزخرف من صناعتهم، ولا البديع من مقاصدهم. فجاءت لغتهم صفواً رائقة، وأساليبهم سائغة شائقة، وألفاظهم عذبة فائقة

لم تكن ثقافتهم من نوع واحد، ولا كانت من طبيعة واحدة. ثم لقد اختلفت في الحياة أعمالهم، وتشعبت مسالكهم، وتغايرت فيها مشاربهم. ولكنهم استقوا جميعاً من معين واحد، معين الأدب الصافي في أزهى عصوره، وأنضر أزمانه. فنهلوا منه وعلّوا، ثم نهلوا وعلوا، حتى استقام لهم القول، وسلس منه القياد، واستحكمت السليقة، وتمهدت الجادة.

هذا أحدهم حافظ إبراهيم؛ أخبرني مرة أنه يكاد يقرأ (كتاب الأغاني) من ظهر القلب، لطول ما عكف عليه ومارسه.

وكان - رحمه الله - شديد الحافظة، حاد الذكاء. وكنت أختلف إلى بعض مجالسه التي يذكرها من أصفيائه من لا يزالون بيننا في هذه الحياة

فكان يدهشنا حقا بواسع اطلاعه، وفيض محفوظه، وعجيب بديهته. وكان له في تلاوته وقفات خلوة للتعليق والشرح، والتعقيب والنقد. يتخلل أولئك نوادر من اللغة، وشوارد من

<<  <  ج:
ص:  >  >>