بات العقاد يصغي لهتفات الكروان في الليالي الحسان السواحر، ويتطلع إلى مجال الربيع من زهر وعطر، ويتملى بجمال الحياة من حب وحسن، ويخف لشباب النفس من عطف وبشر. ومن هذه جميعا اقتبس مجموعة أشعاره الجديدة (هدية الكروان). وهي وان لم تكن جميعا منظومة في مناجاة الكروان، إلا أنها في موسيقيتها كأنما تعارض الكروان وتساجله.
هذه خلاصة قولي في الديوان الأخير. وهذه الخلاصة نفسها مقتبسة من مقدمة الديوان نفسه نظما ونثرا! ولا عجب فالعقاد جبار لا يكاد يدع بعد مقاله مجالاً لقول قائل
ولقد عرض الشاعر في مقدمته المنثورة لطائره الصيدح في كلمات مشرقة ناصعة البيان، رخيمة الحواشي مصقولة الأطراف كحب الجمان، غنية بالمعاني الصادقة. قال:
(تسمعه الفينة بعد الفينة في جنح الليل الساكن النائم البعيد القرار، فيشبه لك الزاهد المتهجد الذي يرفع صوته بالتسبيح والابتهال فترة بعد فترة، ويشبه لك الحارس الساهر العساس الذي يتعهد الليل بالرعاية بين لحظة ولحظة. وينطلق بالغناء في مفاجأة منتظرة أو انتظار مفاجئ فلا تدري أهي صيحة جذل أم هي صيحة روعة وإجفال. ولكنك تشعر بالجذل والروعة والإجفال تتقارب وتتمازج في نفسك حتى لا تتفرق. كأنك تصغي إلى طفل يرتاع وهو جذلان، ويجذل وهو مرتاع، ويطلب الخطر ويشتهيه لأن الخطر في حسه طرافة وحركة، فهو من عالم التفاؤل والإقبال لا من عالم التشاؤم والنكوص
(ويطلع عليك بهتافه من هنا وهناك وعن اليمين وعن الشمال وعلى الأرض وفوق الذرى. فيخيل إليك أنك تستمع إلى روح هائم لا يقيده المكان ولا يعرف المسافة، أطلقوه في الدنيا على حين غرة فسحرته فتنة الدنيا وخلبته محاسن الليل فهو لا يعرف القرار ولا يصبر في مطار)
(فأنت تتلقى من صوت هذا الطائر الأليف النافر عالما من معان وأشجان يتجاوب فيها