منذ أسابيع استشهد في ميدان الطيران حجاج ودوس! فتقاطرت في هذا المكان عبرات الأسى سوداء من هذا القلم، وتصاعدت زفرات الأسف حارة من هذه الصحيفة، وقلنا أن الأمة التي لم تكد تأخذ بأسباب الطيران حتى يسبق إلى الشهادة في سبيله فتيان من فتيانها، ويبادر إلى خوض أهواله فتاة من فتياتها، لا يستطيع أن يكسر من ذراعها حادث، ولا يتكاءدها في طريقها إليه عقبة.
كنا نقول ذلك والقدر الذي فتح لهذين الفتيين في السماء باب الخلود، كان يشق لهذه الفتاة في الأرض طريق المجد! فماكاد يعثر بنا الحظ في الجو الُمِضَّب الغريب، حتى نهض عجلان في جونا الضَّحيان العجيب، وكان يوم نهوضه الأغر يحلق في سماء مصر الجديدة ثمانية وعشرون من نسور أوربا القشاعم! يستعدون للسباق في سمائنا المشرقة الطليقة، ويستَنوَّن للرهان استنان الجياد العتيقة، ويظنون أن مصر التي فكرت في الطيران آخر الأمم لا يمكن أن تكون إلا مطارا لكل طائر، ومائدة لكل زائر! أما أن تكونِ قرنا يغالب، وموتورا يطالب، فذلك ما لم يقع في وهم ولم يَدُر في خَلَد! ولكن مجدنا الذي تحدى القرون وغبَر وجه الفلك لا يزال جياش الغضب على غدرة الجو بشهيديه في فرنسا! فهو يُدمَث لنسوره مثوى الضيافة، ويعقد غيب ضميره على الثأر، ولا يثأر إلا بطريقة تليق بماضيه ونزكو بأصله!! نفث في روع حمامة من حمائم الوادي أن تسابق هذه النسور في حَلبْة الهواء إلى الأمد! فصفَّت الحمامة المصرية في الجو جناحها الهشّ وريشها الناعم، ثم نظرت نظرة التحدي إلى النسور المحوّمة، فتوقدت صدور الكواسر غضبا من هذه الجرأة، وشق على ملوك الهواء وجبابرة السماء أن يشعروا بهذه الحمامة وقالوا ممتعضين: ريشة تواثب الريح، وهامة تعاجز الثور، ونملة تناجز القدر! وقال (ضيوفنا) الأعزة أصحاب (النشرة البذيئة)، والفخر المتعصب يثنى اعناقهم، والزهو الساخر يلوى أشداقهم:(يا لغَرور (أبناء العرب)! متى دخلت (الحمير) مضامير السباق؟ ومتى سامت وحوش (البهائم) سوابح الطير! ألم تكفهم فضيحة (الجنديين القذرين) حجاج ودوس؟
وكانت عيون مصر حينئذ تشخص إلى السماء مغرورقة بالأمل، ومحركات الطوائر الدولية تهزم في الجو الصافي هزيم الرعود، والأجنحة المعدنية تضرب في الهواء الساكن إلى الإسكندرية، ولطيفة النادي تتقدم بطائرتها الصغيرة السرب المتعاقب المثار إلى قصبات