للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١ - مدينة الزهراء]

وحياتها الملوكية القصيرة

للأستاذ محمد عبد الله عنان

قرأنا منذ حين في بعض الأنباء الخارجية أن بعض الهيئات الأثرية في إسبانيا تعنى بالبحث لاكتشاف معالم مدينة الزهراء الأندلسية، وأنها قد وفقت بالفعل إلى اكتشاف بعض أسس قديمة في ضاحية قرطبة يظن أنها من أسس قصر الزهراء؛ وجدير بمثل هذا النبأ أن يثير شجناً في نفس أولئك الذين يستعرضون تاريخ الأندلس، وتاريخ قاعدتها الملوكية الشهيرة التي غاضت من صفحة الوجود حتى لم يبق من أطلالها اليوم ما يدل على مواقعها ومعالمها.

كانت الزهراء من أعظم القواعد الملوكية التي عرفها التاريخ، ولكنها لم تعمر طويلاً ولم تقم في تاريخ الأندلس بدور ذي شأن، ولم ينزلها سوى مؤسسها الناصر وولده الحكم وابنه المؤيد، ولم تعمر كقاعدة ملوكية أكثر من نصف قرن؛ ومن غرائب القدر أنه في الوقت الذي أكملت فيه الزهراء في عهد الحكم المستنصر، وضعت أسس قاعدة ملوكية إسلامية جديدة قدر لها أن تؤدي في تاريخ الإسلام وتاريخ الحضارة الإسلامية أعظم دور؛ تلك هي القاهرة المعزية التي أخذت تتفتح عظمتها وبهاؤها في نفس الوقت الذي ذوت فيه عظمة الزهراء وعصفت بها حوادث الدهر؛ ولم تكن الزهراء أول قاعدة ملوكية في الأندلس، ولم تكن القاهرة أول قاعدة ملوكية إسلامية في الشرق أو في مصر، فمن قبل أنشأ هشام بن عبد الملك رصافة الشام لتكون منزلاً ملوكياً لبني أمية، وأنشأ المعتصم سامراء لتكون منزلاً له ولعقبه من بني العباس، وأنشأ ابن طولون مدينة القطائع بمصر لتكون له ولعقبه قاعدة ملوكية إلى جانب الفسطاط عاصمة مصر الإسلامية؛ وفي الأندلس أنشأ عبد الرحمن بن معاوية مؤسس ملك بني أمية بالأندلس ضاحية ملوكية في قرطبة سماها الرصافة تشبهاً برصافة جده هشام؛ وسطعت كل من هذه القواعد الملوكية الإسلامية حيناً من الدهر، ولكنها اختفت جميعاً من صفحة الوجود، إلا القاهرة فإنها استحالت إلى عاصمة الإسلام في مصر، وما زالت تقطع الأحقاب قوية راسخة، تحمل حتى اليوم عمرها الألفي أعظم ما تكون الحواضر العظيمة والمدن الغراء ضخامة وفخامة وبهاء.

<<  <  ج:
ص:  >  >>