كان عصر عبد الرحمن الناصر أعظم عصور الإسلام في الأندلس، وكانت قرطبة عاصمة الأندلس، قد بلغت يومئذ أوج العظمة والإزدهار، وأضحت تفوق بغداد، منافستها في المشرق، بهاء وفخامة، ولكن قرطبة كانت بمعاهدها ودورها وطرقها الزاخرة، وسكانها الخمسمائة ألف، تضيق بما يتطلبه ملك عظيم كملك الناصر من استكمال الفخامة الملوكية والقصور والرياض الشاسعة؛ بل كانت تضيق بهذه الأبنية الملوكية منذ عهد عبد الرحمن الداخل حيث أنشأ الرصافة في ظاهرها لتكون له منزلاً ومتنزهاً ملوكياً. وقد كان بناء القواعد الملوكية دائماً سنة العروش القوية الممتازة؛ فلما بلغ الناصر لدين الله ما أراد من توطيد ملكه وسحق أعدائه في الداخل والخارج، عنى بأن يعرض آيات من ملكه الباذخ، وثاب له رأي في أن يقيم بجوار قرطبة ضاحية ملوكية رائعة، فأنشأ مدينة الزهراء؛ ولإنشاء الزهراء قصة، وربما كانت أسطورة على مثل الأساطير التي ترتبط بقيام المدن والمنشآت العظيمة. ولم تقل لنا الرواية إن الناصر رأى حلماً كالذي رآه قسطنطين فأوحى إليه بإنشاء قسطنطينية، ولكنها تقول لنا إن الذي أوحى إلى الناصر ببناء هذه الضاحية الملوكية هي جاريته وحظيته (الزهراء)؛ وأنه ورث من إحدى جواريه مالاً كثيرا فأمر أن يخصص لافتداء الأسارى المسلمين، ولكنه لم يجد من الأسارى من يفتدى، فأوحت إليه (الزهراء) بأن ينشئ بهذا المال مدينة تسمى باسمها وتخصص لسكناها. بيد أنا نفضل أن نرجع مشروع الناصر إلى بواعث الملك والسياسة، وإلى عرض فخامة الملك والترفع بمظاهره وخصائصه عن المظاهر العامة لعاصمة مكتظة زاخرة.
والظاهر أيضاً أن شغفاً خاصاً بالعمارة والبناء كان يحفز الناصر ويذكي رغبته في إقامة هذه الضاحية الملوكية، وقد كانت المنشآت والهياكل العظيمة على مر العصور مظهر الملك الباذخ والسلطان المؤثل، وقد نسبت إلى الناصر في ذلك أبيات قالها في هذا المعنى:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان
إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
وهكذا اختطت الزهراء في ساحة تقع شمال غربي قرطبة على قيد أربعة أميال أو خمسة منها في سفح جبل يسمى جبل العروس؛ وكان البدء في بنائها في فاتحة المحرم سنة خمس