للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[دين البادية]

عن لامرتين

للأستاذ التنوخي

عضو المجمع العلمي العربي وكاتب سره

وأولئك الملاحون السابحون إلى الأبد على بحار من الرمال، قد أكسبهم الاعتياد أخلاقاً متشابهة، بمشاهدة مناظر متشابهة، وسكنى منازل متشابهة، وبنقلهم المستمر لخطوات متشابهة، في طرق ومسالك متشابهة، فسجاياهم على ذلك مشابهة لسجية البادية. أنهم لمتمسكون بدينهم تمسك اللانهاية بهم، وأحرار كحرية الفضاء المكشوف لهم؛ وجوالون تجوال الجواد الذي يقلهم، والناقة التي تحملهم، والقطيع الذي يتبعهم؛ وهم أجاويد مثل الخيمة المفتوحة أبداً لأخي الأسفار، أضلته مجاهل القفار؛ ومغاوير لهم جرأة المدين بحياته لقوة عضلاته، والمضطر للذود عن حريمه ومأواه، والدفاع عن مائة ومرعاه، من غزوات القبائل والغارات المداهمة؛ وهم بحكم العادة ميالون كالوحدة إلى الصمت، ومولعون بالحديث أحياناً شأن الإنسان الذي يلاقى بعد طوال الوحشة أخاه الإنسان فيحدثه عن كل شيء، ويستخبره عن كل شيء؛ وهم مفطورون على الشعر وعلى التأمل فطرة الليل والنهار، والكواكب والآفاق التي يقع عليها أبصارهم أبداً؛ وهم قصاص بارعون لاضطرارهم إلى قضاء ساعات الفراغ الطويلة في سرد الحكايات والأخبار والعجائب إما تحت الخيام أو حول الآبار تسلية للقلب من البلبال، وتزجية لساعات الفراغ والملال

إن من لم يكتحل بمشاهدة غروب الشمس في ضبابة حمراء من الجحيم يعكس نورها ذلك الرمل المنتشر ما بين النهرين، أو بلاد الكلدان، ومن لم يراقب طلوع الكواكب متهادية، ثم هبوطها في ليالي الشتاء على بحر محيط من الأثير الأزرق، اعمق من الفكرة التي تغوص فيه، وأصفى من ماء البحر في رأس الأرض المنتصب الذي يحول دون لآلائه والتجمد، ومن لم يسمع همس تلك النسمات المتوالية من ريح لم يتم في البادية سكونها، وكيف تهينم بصوت رخمه في المسامع مروره على تلك الروابي والهضاب، وعلى عذبات أوراق الاعشاب، ومن لم يطرح طرفه كل مطرحٍ في ذلك الفضاء الذي لا وراء بعده، والذي

<<  <  ج:
ص:  >  >>