الناس يغذون في السير إذ يغدون إلى أعمالهم ولا تزال الشمس حمراء الخيوط فاترة الأشعة، وما من أحد إلا وفي مشيته النشاط والجد، وما من شارع إلا وقد دبت فيه الحياة أو تمثلت فيه أنماط من صور السعي إلى الرزق، وكل امرئ في شغل بسعيه عن غيره.
ومررت بباب أحد الفنادق الكبرى، فإذا بغانية كأن وجهها زهرة نَّضرتها أنسام الفجر وأنداؤه، وكأن عينيها نجمتان تخلفتا عن المغيب، وكان يضع خدم الفندق متاعها في سيارة من سيارات الأجرة، بينما كانت تحمل على ذراعها معطفها وفراءها وعدداً ليس بالقليل من ثيابها. . . وسقط ثوب على الأرض فأسرع ثلاثة أو أربعة من شبابنا يتنافسون في السبق إليه، وظفر أحدهم بالتقاطه فأزال عنه الغبار بمنديله وقدمه إلى الغانية مزهواً مسحوراً بابتسامتها؛ وهذه مروءة منه لاريب، ونحن قوم أولو مروءة، فلا تحسبن أن مرد ما فعل ذلك الشاب إلى ما جذبه من جمال. ولو أنها كانت عجوزاً فهل تشك في أنه كان يسعى إليها؟ إنك إذن لمن الجاحدين. . .
ومضيت أغبط الفتى على مروءته، أو قل أحسده على ما ظفر به جزاء على فعلته، وأذكر ليلة الأمس إذ نزل من النادي أحد الكبراء من أصحاب الديوان، فدفعت المروءة بعض الأساتذة الأماثل إلى الحفاوة به: فهذا يفتح له باب السيرة، وذلك يحنى له رأسه، بل لقد رأيت فيهم من عظمت مروءته فحمل له معطفه على ذراعه من أعلى النادي فناوله إياه في سيارته. ولكن أحداً من هؤلاء لم يظفر بشيء كتلك الابتسامة الحلوة التي ظفر بها من الغانية هذا الشاب الذي لا يزال منى على خطوات.
وبينما تنهال على ذهني صور تلك المروءات التي هي إحدى صفاتنا العامة، آمنت بذلك أو لم تؤمن، إذ التفت على صوت (موتسيكل) انقلب براكبه الشاب الأنيق وتفجرت منه النيران وقد اشتبك سروال الراكب المسكين بأحد أجزائه فما يستطيع النهوض، وعلقت النار بثيابه، وكلماهم وقع من الرعب ومن نشوب ثوبه بالحديد وهو يفرك النار عن ثوبه بيديه في لهفة ولا يدرى ماذا هو فاعل، وإنه ليدور بعينيه مستنجداً في صورة من الرعب لا توصف، وذلك الشاب ذو المروءة الذي يحترق من بنى وطنه. ولا تسلني بالتقصير