الآن، وقد بلغت بك نهاية الحديث عن السيدة عائشة ومغامراتها السياسية، وآثارها القريبة والبعيدة في حياة المسلمين أودعك موصياً أن تجعل بالك أبداً - كلما قرأت التاريخ - إلى عبره وتجاربه، فتأخذ من كل شيء أحسنه، وتربأ بنفسك وبأمتك أن تغامر في تجربة ثبت ضررها وفسادها، وخاصة إذا كان الثمن الذي قدمناه فيها دماء عشرات الألوف. وأنا أريد أن أختم كلامي بالنص على عبرتين اثنتين من هذه العبر الكثيرة التي تعرض لقارئ هذا الكتاب، تنقذاننا مما نحن فيه اليوم من تخبط، وتنيران لنا طريقاً طال تعسفنا في المتاهات دون أن نهتدي إليه.
أما الأولى: فهي أن المرأة لم تخلق قط لتدس أنفها في المنازعات السياسية. إن لها أن تنصح وتبصر القريبين منها بعواقب الأمور، وليس لها أن تشارك في القلاقل والاضطرابات والفتن. إن بيدها مفاتيح خطرة في التأثير في نفوس الجماهير وفي استغلال حميتهم ونخوتهم ومشاعرهم، وهذا السلاح غير حميد في العواقبولا يصح استعماله بحال. وقد أبنت لك أنه لولا موقف السيدة عائشة في أمر عثمان ثم المطالبة بدمه من بعد لتغير مجرى الحوادث في تاريخنا التغير كله، ولسارت سيراً مأموناً مطرد الرقي مباركا، فيه الخير كل الخير للأقطار الإسلامية. . .
وكان الله الذي جعل النساء لتنشئة الرجال وتربية الأجيال وإدارة البيوت، أراد أن يعظ المسلمين عظة علمية لا تنسى، كلفتهم كل تلك الدماء المهراقة، وفجعتهم بالألوف من الصحابة الأجلاء المهاجرين والأنصار ومن الفحول المذاويد من أبطال الفتح وأعاظم الفقهاء وأساطين القراء ورؤوس الناس. . . ليعلموا: إن لو كان أمر من أمور الرجال الخاصة بهم يقوم بامرأة، لقام بعائشة أم المؤمنين، تلك السيدة الحصيفة التي أوتيت من المواهب والذكاء والعلم والبلاغة والصلاح. . . ما لم يؤته رجال كثيرون مجتمعين، والتي جمع الله فيها من المآثر العظام ما تفرق في العدد العديد من الفحول.
لقد خلدت حرب الجمل مناراً في تاريخ المسلمين: كلما نزغ بهم نزغ من تقليد أعمى