منذ آلاف السنين، بينما الناس في اللهو والضلال كانوا منغمسين، سُمع من جانب السماء صوتٌ هائل كأنه الرعد القاصف قد اهتزت له أطباق الفضاء ومادت منه جوانب الأرض؛ فإذا بميازيب النور تجف على أثر ذلك، والظلام يغمر الدنيا كلها؛ كأنما الشمس الحبيبة - أمُّ الحياة - قد غاضت أشعتها الزاهية وانطفأ معناها الحي، وإذا بالأنهار والينابيع والغدران تجمد وتكف عن السعي، وقد استحال خريرها المؤنس الجميل إلى صمت كئيب موحش كصمت القبور، وإذا بريح صرصر عاتية تهب مجنونة على الأرض فتقتلع الأشجار بأصولها وفروعها وتهيج الغبار، وتخطف المنازل من أماكنها، وإذا بالضواري المروعة تنفر من مكامنها هائجة غاضبة تزأر. . .!!
وريع الناس وجبنوا فما يدرون ماذا دهاهم من الخطوب، ثم أقبل بعضهم إلى بعض يتساءلون: أي ذنب اقترفناه، وأية فريضة لم نقم بها حتى صب علينا الإله العظيم غضبه وويله؟
وكانت قافلة الحياة يومئذ من الشر والضلال في منزلة لم يعرفها التاريخ في أدنى عهوده، تسير على غير هدى وإلى غير غاية في معمعهٍ من الفساد وطريق من الرذيلة، وكان رجال الفن أدق الناس شعوراً وأرهفهم إحساساً. فقال الشاعر:(إني نظمت في مديح الإله قصيدة رائعة منتزعة من النفس؛ لا صادرة عن اللسان، ما احسب أن أحداً من الشعراء سبقني إلى مثلها على كثرة المادحين، أودعت فيه قلبي ودمي، وحرقت لها مخي وكبدي، ثم صغتها في لفظ عذب جميل! فأنا أسبح بحمده ما نطقت، وأنشر روحه أنى حللت ولقد أجثو في محرابه خاشعاً متصدعاً، أتلو آي التمجيد والاجلال، فكيف يغضب مني وينقم علي؟)
وقال الموسيقي:(وأنا أيضاً لحنت أنشودة قوية تحكي هديل الحمام وتغريد العنادل، ورجعتها ترجيع عاشق محزون، ثم قدمتها هدية حقيرة للإله الجبار، فلماذا غضب.؟)