بعد أيام قلائل - في يوم الجمعة ١٥ يونيه - تسير الباخرة المصرية (النيل) من ثغر الإسكندرية إلىنابل (نابولي) ثم إلى مرسيليا. وهذه الرحلة الأولى لباخرة مصرية كبيرة في عباب البحر الأبيض المتوسط، يجب أن تثير في نفوسنا كثيراً من الذكريات المجيدة. ذلك أن (النيل) تصل بهذا الفتح البحري الميمون ما انقطع من عصور السيادة البحرية المصرية في لجة هذا البحر الخالد؛ فمنذ قرون بعيدة كانت مصر تتبوأ في التجارة البحرية، كما تتبوأ في القوى البحرية مركزاً ممتازا، وكانت السفن المصرية تتردد بين الإسكندرية ودمياط وبين ثغور الشرق حتى قاصية البحر الأسود، والثغور الإيطالية، ثم ثغور المغرب والأندلس في الطرف الأخير من البحر الأبيض المتوسط، وكانت تساهم بأعظم قسط في النقل البحري ما بين أوربا والشرق، وتمر بثغورها معظم تجارة الشرق الأقصى. وكانت بين الإسكندرية وقسطنطينية، وبينها وبين البندقية وجنوة خطوط بحرية منظمة، والسفن المصرية تقطع لجة هذه المياة ذهاباً وإياباً، وعلم مصر الإسلامية دائم الخفوق في هذا العباب
ولقد تبوأت مصر الإسلامية مركزاً ممتازاً في السيادة البحرية منذ القرن الأول للهجرة؛ وكانت السفن المصرية والبحارة المصريون عماد الفتوحات الإسلامية البحرية الأولى في شرق البحر الأبيض: في رودس وقبرس واقريطش؛ وكان العرب قبل فتح مصر يخشون البحر وأهواله، فلما فتحوا مصر، وأدركوا أهمية مركزها البحري، اتخذوا من الإسكندرية قاعدة لحشد الأساطيل، والفتوحات البحرية؛ وكان لبحارة الإسكندرية شهرة خاصة؛ وكانت تدرب بينهم خيرة الضباط والجنود البحريين. ولما سار العرب لحصار قسطنطينية للمرة الرابعة سنة ٩٩هـ (٧١٧م)، وحل بهم الضيق تحت أسوار المدينة المحصورة، حشدت سفن المدد في الإسكندرية، وسيرها البحارة المصريون إلى مياه المرمرة. وكان للسفن المصرية والبحارة المصريين دائماً أكبر نصيب في الفتوحات البحرية التي كانت تسير إلى ثغور الدولة البيزنطية وجزائر بحر إيجه. وظهرت براعة المصريين البحرية في عشرات