كان عصر الشيخ عبد الرحمن الجَبَرْتِيْ في أواخر القرن الثاني عشر الهجري وأوائل القرن الثالث عشر فاصلاً بين عصرين من عصور الجامع الأزهر؛ فإلى عصر الشيخ الجبرتي كان الجامع الأزهر يستأثر وحده بالتعليم العالي في مصر؛ وكان لرجاله نفوذ كبير في البلاد يضارع نفوذ حكامها من الترك الجراكسة والعثمانيين؛ أما بعد عصره فإن المدارس المدنية التي أنشأها محمد علي باشا أخذت تنافسه في وظيفته، وتضعف من شأنه، فصار يذوى وينكمش، وأخذ يرضى بالقليل من العلوم الدينية والعربية، ويترك لتلك المدارس كثيراً من العلوم التي كان يعنى بها قبل إنشائها: كالتاريخ والأدب وتقويم البلدان وغير ذلك من العلوم التي كان يعنى بها؛ وكانت تزيد في ثقافة رجاله، وتعلي من شأنهم، وتقوي من عزائمهم. فلما رضى بالقليل من تلك العلوم الدينية والعربية ضاقت ثقافة رجاله، وضعفت فيه الهمم، وفترت العزائم، حتى صرنا نرى من رجاله من يذكر في تعليقه على بيت المتنبي الوارد في كتاب التلخيص للخطيب القزويني:
مُبارَكُ الاسم أغَرُّ اللقبْ ... كريم الجرّشي شريف النسبْ
أن سيف الدولة الممدوح بهذا البيت من بني العباس، لقول المتنبي فيه (شريف النسب) مع أن سيف الدولة كان من قبيلة تَغلب، وهي من قبائل ربيعة، فأين هو إذن من بني العباس وهم من بني هاشم، وبنو هاشم من قريش، وقريش من مضر.
وكذلك يزعم بعضهم في تعليقه على قول الفرزدق الوارد في ذلك الكتاب أيضاً:
إن الذي سَمَك السماء بنى لنا ... بيتاً دعائمهُ أعزُّ وأطولُ
أن المراد بالبيت فيه الكعبة لأن الفرزدق كان من قريش، مع أن الفرزدق كان من تميم، وهو يفتخر في ذلك على جرير ببيته فيهم، وقد صرح به بعد ذلك في قوله:
بيتاً زُرَارَةُ مُحْتبٍ بفنائه ... ومُجاشعٌ وأبو الفوارس نهشلُ
ولا غرو بعد هذا في أن يؤلف الجبرتي كتابه الجامع في التاريخ المسمى (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) فيلمّ فيه بأخبار عصره كبيرها وصغيرها، ويترجم لرجاله تراجم وافية شاملة، وفيهم الفقيه والنحوي والأديب والشاعر والفلكي والطبيب والحاكم والقاضي