لكل كاتب منهجه، ولكل مفكر تقديره. وما اذهب إليه في تحديد الرافعي هو ما تيقنته فيه قبل أن تنشأ بيننا أية علاقة شخصية، إذ رأيت فيه الأديب المطبوع المتمرد على كل مشايعة وتقليد. فهو مثال جديد للأدب العربي القديم يستلهم أجواء الشرق ويلبس تفكيره حلة من لغة الجنان لا يسع كاتباً من عباقرة سائر الأمم أن ينسج على منوالها.
الرافعي هو أحد أعلام العرب المعدودين، أحد الأئمة السائرين في الطليعة من فيالق الأدباء في عصر النهضة الجديدة. ولا يجوز لأي كاتب منصف أن يصوره للتاريخ متخلقا خطوة واحدة عن رفاق جهاده. فمن الجناية على الحق أن نقيم في وهمنا حلبة نستركض عليها عباقرتنا ونتسلى بالنظر إليهم كأنهم جياد السباق يتجهون إلى أمد واحد. فليس الأدب حلبة اختط المراهنون عليها طريقاً واحداً لتغلب فريق على فريق؛ إن الأدب إلا أجواء تتطاير فيها القرائح فراشات تستهويها أنوار وأنوار. . . ولكل نور جذبته، ولكل نور جماله، إذا هو اقتاد المنجذب إليه نحو الحق والخير. وما ادري أن بين كتابنا وشعرائنا أمواتا وأحياء من يبز مصطفى في أيمانه ووطنيته وقوميته وإشراق بيانه ومتانة أسلوبه ولطافة شعوره وعمق تفكيره.
هذه قطعة (رؤيا في السماء) إن وجدت لها مثيلاً من حيث الفن بين ما كتب اشهر الرمزيين من أبناء الغرب، فإنك لم تجد ما يشبه روعة بيانها ولا إشراق إلهامها وقد تلألأت في سطورها من الأحاديث الشريفة، ومن حكم السلف الصالح ما يدفع بك وأنت تتلوها إلى السجود كأنك تصلي بأصوات القبور المتعالية من خفايا فطرتك وأعماق روحك.
اسمع صرخة الإلهام في روح الرافعي تخرج من فم ملاك يؤنب رجلاً فضل العزوبة على الزواج ووقف في البرزخ الفاصل بين العالمين متخذاً من تنسكه وتعبده زلفى إلى الحق.
قال الملاك: (جئت من الحياة بأشياء ليس فيها حياة، فما صنعت للحياة نفسها إلا أن هربت