أذكر أن الطالب الناشئ كان يدخل الأزهر فيجد أول ما يقرأ من كتب النحو شرح الكفراوي على متن الأجرومية، وهذا الكتاب شديد الكلف بالأعراب، يأخذ به المبتدئ أخذا عنيفا قبل أن يعلمه كلمة واحدة من أقسام الكلام ووجوه النحو. يفتحه الصبي المسكين فلا يكاد يقول (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى يصيح به الشارح أو المقرر أن أنتظر حتى أعرب لك البسملة! وهنا يسمع لأول مرة بحرف الجر الأصلي والزائد، ويعلم بطريقة أن له في البسملة تسعة أوجه نشأت من رفع الرحمن ونصبه وجره، مضروبة في رفع الرحيم ونصبه وجره، ثم يمضي المعرب في إعراب هذه الأوجه بالتخريج العجيب والحيلة البارعة حتى تقف قدرته عند وجهين لا يجد لهما مطلعا ولا مأتى فيمنعهما، وهما جر الرحيم مع رفع الرحمن أو نصبه؛ ثم يخشى بعد ذلك الجهد أن يعبث النسيان الساخر بهذه الدقائق الغالية فيسجلها في هذين البيتين وهما:
أن ينصب الرحمن أو يرتفعا ... فالجر في الرحيم قطعاً منعا
وأن يُجر فأجِز في الثاني ... ثلاثة الأوجه خذ بياني!
يأخذ الطالب هذا البيان على العين والرأس ثم يخطو خطوة فتقع عينه على العنوان الأول في الكتاب وهو (باب الإعراب) وهنا يقول له الشارح: قل باب الأعراب بالرفع أو باب الأعراب بالنصب أو باب الأعراب بالجر فلن تعدو وجه الصواب في أي حالة!! فالرفع على أن (باب) خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هذا باب الأعراب، أو على أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: باب الأعراب هذا محله، والنصب على أنه مفعول به لفعل محذوف تقديره: اقرأ باب الأعراب، وأما الجر فعلى أنه مجرور بحرف جر محذوف تقديره: أنظر في باب الأعراب!! ثم يصعد الطالب في معارج النحو على كتاب من هذا الطراز بعد كتاب، حتى يتسنم ذروته، وليس في ذهنه مذهب صحيح ولا قاعدة سليمة. وماذا تنتظر من مثل هذا الخلط غير إفساد الذوق وإضعاف السليقة، وطبع القرائح على هذا الغرار من التفكير العابث والتقدير الهزيل؟ جنى هذا النحو الفوضوي على الناشئين في معاهده فعمى عليهم وجوه الأدب، ثم فتح لهم من الجدل اللفظي والتخريج اللغوي أودية وشعابا يقصر دون غايتها الطرف. فعندهم كل صواب يمكن أن يخطَّأ، وكل خطأ يمكن أن يصوّب وكل كلام على أي صورة يجب أن يفسر أو يؤّول! أخرق القواعد، وأقلب الأوضاع، وأنطق