اللفظ على أي حركة، واستعمله في أي معنى، فانك واجد ولا شك من هؤلاء من يلتمس لك وجها من وجوه (البسملة) السبعة، أو مخرجا من مخارج (باب الأعراب) الثلاثة!
عرفت أيام الطلب شيخا قد ابتلي بهذه الشعوذة، فحشا جسمه بهذا العبث النحوي حتى ليرشحه من جلده، ويرعفه من أنفه، ثم يتكلم فيتعمد اللحن القبيح، فإذا أنكر عليه منكر انفجر عن هذا الهوس فذكر لكل خطأ وجها، ولكل وجه علة، ثم يقول في تفيهق وزهو:(لولا الحذف والتقدير، لفهم النحو الحمير) وسمعت أن شيخا ضعيف البصر ممن يسوغ في فهمهم كل كلام، قرأ قول الرسول (ص)(المؤمن كيِّس فطِن، فصحّفها: المؤمن كيس قطن! وراح يحملها على التشبيه فيقول: معناه أن المؤمن أبيض القلب كالقطن: وزعموا أن شيخا كبيرا كان يفسر كتاب الله وهو لا يحفظه، فرأى قوله تعالى: (إذ يبايعونك تحت الشجرة) فقرأها أذئبا يعونك. . . وكتب في تعليلها وتأويلها أربع صفحات من القطع الكبير بالحرف الصغير!!. وحدثوا أن ممتحنا من هذا النمط، كتب في ورقة طالب راسب:(لا يصلح) ثم ظهر لأمر خارج عن إرادته أنه ناجح، فكتب تحت هذه الجملة:(قولي لايصلح، صوابه يصلح ولا زائدة) والأحاديث مستفيضة عمن نكبوا بهذه الدراسة دون أن يكون لهم من المنطق ضابط، ولا من الطبع دليل.
إن ما نجده في النحو العربي من التناقض والشذوذ وتعدد الأوجه وتباين المذاهب إنما هو أثر لاختلاف اللهجات في القبائل، فقد كان رواة اللغة يرودون البادية ويشافهون الأعراب، فيدونون كلمة من هنا وكلمة من هناك، فاجتمع لهم بذلك المترادفات والأضداد، وتعدد الجموع والصيغ للفظ. واختلاف المنطق في الكلمة، والنحاة مضطرون إلى أن يمطوا قواعدهم حتى تشمل هذه اللحون، وتستوعب تلك اللغات، فأغرقوا القواعد في الشواذ، وافسدوا الأحكام بالاستثناء، حتى ندر ان تستقيم لهم قعدة أو يطرد عندهم قياس. وزاد في هذه البلبلة أن أسرف أعاجم النحاة في التعليلات الفاسدة، والتقديرات الباردة، منذ نهج لهم ذلك النهج ابن أبي اسحق الحضرمي، فجعلوا النحو ضربا من الرياضة الذهنية، والقضايا الجدلية، التي لا يصلها باللغة سبب، ولا يقوم عليها فن ولا أدب. ليس من شك في أن دراسة النحو على هذا الشكل تفيد في بحث اللهجات في اللغة، ودرس القراءات في القرآن، ولكن دراسته لضبط اللغة وتقويم اللسان أمر مشكوك فيه كل الشك. نحن اليوم