وبينما قامت الدولة الإسلامية ثابتة وطيدة الدعائم، وقامت في جميع أقطار الخلافة حكومات محلية قوية ومجتمعات إسلامية مستنيرة، وجيوش غازية منظمة، إذا بمجتمع القبائل الجرمانية غزاة رومة من الشمال ما يزال إذا استثنينا مملكة الفرنج على حالته من البداوة والتجوال والتفرق. وكان الفرنج هم قادة القبائل الجرمانية في هذا الصراع الذي نشب في سهول فرنسا وآذن طوره الحاسم بعبور المسلمين إلى فرنسا في ربيع سنة ٧٣٢، وكان سيل الفتح الإسلامي ينذر باجتياح فرنسا منذ عشرين عاما أعني مذ عبر المسلمون جبال البرنيه بقيادة موسى بن نصير لأول مرة واستولوا على سبتمانيا ثم اقتحموا بعد ذلك وادي الرون واكوتين أكثر من مرة. ولكن مملكة الفرنج كانت يومئذ تشغل بالمعارك الداخلية وتقتتل حول السلطان والرياسة حتى ظفر كارل مارتل بمنصب محافظ القصر، وأتفق أعواما أخرى في توطيد سلطانه؛ بينما كان خصمه ومنافسه أودو أمير أكوتين يتلقى وحده ضربات العرب. فلما استفحل خطر الفتح الإسلامي وانساب نحو الشمال حتى بورجونيا منذ ولاية الهيثم فزع الفرنج وهبت القبائل الجرمانية في أوستراسيا ونوستريا لتذود عن سلطانها وكيانها.
وكان الخطر داهما حقيقيا في تلك المرة لأن المسلمين عبروا البرنيه عندئذ في أكبر جيش حشد وأتم أهبة اتخذت منذ الفتح. وكان على رأس الجيش الإسلامي قائد وافر الهمة والشجاعة والبراعة هو عبد الرحمن الغافقي وهو أعظم جندي مسلم عبر البرنيه. وكان قد ظهر ببراعته في القيادة منذ موقعة تولوشة حيث استطاع إنقاذ الجيش الإسلامي من المطاردة عقب هزيمته ومقتل قائده السمح والارتداد إلى سبتمانيا. وتبالغ الرواية الفرنجية في تقدير جيش عبد الرحمن وأهبته فتقدره بأربعمائة ألف مقاتل، هذا غير جموع حاشدة أخرى صحبها لاستعمار الأرض المفتوحة. وهو قول ظاهر المبالغة. وتقدره بعض الروايات العربية بسبعين أو ثمانين ألف مقاتل، وهو أقرب إلى الحقيقة والمعقول. بل لقد أثارت هذه الغزوة الإسلامية الشهيرة وهذا الجيش الفخم خيال الشاعر الأوربي الحديث، فنرى الشاعر الإنجليزي سوذي يقول في منظومته عن ردريك آخر ملوك القوط: