للسياحة أدب خاص. وربما كان أدب السياحة أقدم أنواع الأدب بعد أدب الأساطير والفروسية. فمنذ القرن الخامس قبل الميلاد نجد هيرودوت أبا التاريخ يجوب أنحاء آسيا الصغرى وفارس والشام ومصر، ويقدم لنا دراسته ومشاهداته في أثر ممتع هو الأول من نوعه. وقد جرى أكابر الرحل والرواد في كل عصر وقطر على تدوين رحلاتهم ومشاهداتهم. ولدينا في تراثنا العربي طائفة كبيرة من الآثار الهامة التي تعتبر وثائق نفيسة عن أحوال العصور التي كتبت فيها والبلاد والمجتمعات التي تناولتها
وقد كانت السياحة من قبل مغامرة محفوفة بالمشاق والمخاطر، ولكنها أضحت في عصرنا هينة ميسورة، بل غدت متاعاً ونزهة بما مهد لها من وسائل المواصلة السهلة الأمينة في البر والبحر والهواء، وتنوعت سبلها ووسائلها ومرغباتها، وأضحت في كثير من البلاد التي حبتها الطبيعة بمحاسنها صناعة قومية تنظم لاجتذاب الموسرين والمترفين
ومن الحقائق المعروفة أن السياحة تذكي الخيال وتلهم القلم؛ ذلك أن السياحة تقدم إلى الكاتب مادة غزيرة من الجديد في كل شيء: في الطبيعة والإقليم، وفي الأشياء والناس، وفي مختلف نواحي الحياة الاجتماعية؛ وهي بما تحمل من متاع للنفس والعين والروح تمد الكاتب بذلك الغذاء الروحي الذي يستمد منه صوره، وتبعث إليه في معظم الأحيان رغبة ملحة في التحدث والإفضاء بما رأى وشاهد
وصلنا إلى مرسيليا بعد أن قضينا في البحر خمسة أيام في جو هادئ وسير ناعم مريح، وأرسينا في الصباح الباكر في مرفئها الشاسع. ومرسيليا ثغر عظيم، ولكنها لا تمتاز عن غيرها من الثغور الكبيرة في مظاهر حياتها ونشاطها؛ بيد أن ما نلاحظه عادة في حياة الثغور من تباين في الناس والمجتمع يبدو في مرسيليا أقوى وأشد وضوحا. فهنالك يلتقي الشرقيون والغربيون من مختلف الأجناس والأمم، وتغص بهم شوارعها ومقاهيها وفنادقها، ولكن هذا المجتمع المتباين يجوز دائماً حياة طائرة غير مستقرة؛ ذلك أن مرسيليا مجاز فقط بين الشرق والغرب، تجتازها الجموع مسرعة، سواء إلى المشرق أو إلى المغرب، ولا