من أوضح الظواهر أن الجمهرة العظمى من المتعلمين الذين درسوا أدباً عربياً وأدباً أجنبياً يعكفون على الأدب الأجنبي يتذوقونه ويكثرون من مطالعته، في جدهم إن شاءوا الجد، وفي لهوهم إن شاءوا اللهو، وهم إن قرءوا في الأدب العربي ففي القليل النادر، وإن فعلوا لم يطيلوا ولم يتعمقوا، وقل أن يدرسوا كتاباً دراسة جيدة، إنما أكبر همهم أن يقلبوا صفحات الكتاب ليقع نظرهم على أبيات من الشعر يستملحونها، أو قصة طريفة يتفكهون بها. ومكتبتهم، على قلتها، تمثل ميلهم، فالكتب الإنجليزية أو الفرنسية فيها غالبة، والكتب العربية قليلة نادرة.
ذلك ولا شك حال أغلب المثقفين ثقافة عصرية. ويذهب بعض الباحثين في تعليل هذه الظاهرة إلى أن السبب يرجع إلى فساد تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس، فإن أساتذتها لا يحببون إلى الطلاب الأدب العربي، ولا يصلون به إلى نفوسهم، وإنما هي أمثلة محدودة تتكرر عاماً بعد عام، ونماذج من الشعر والنثر تعرض مرة بعد مرة، ولا غرض من دراستها إلا أن يذكرها الطلبة عند الامتحان فيؤدوها كما تليت عليهم، ثم تذهب بذهاب الامتحان، لأنهم قد تجرعوها على مضض، فهم يفرحون بنسيانها فرح المريض، وقد شفي، بالخلاص من دواءٍ مر المذاق.
قد يكون هذا سبباً صحيحاً، ولكنه فيما أرى ليس بالسبب الجوهري، فإن بعض اللغات الأجنبية التي تدرس بيننا ليست دراستها بأحسن حالاً من دراسة اللغة العربية، ومع هذا فالطلبة يسيغون أدبها ويتذوقون كتبها بما لا يظفر ببعضه الأدب العربي.
أهم سبب عندي يرجع إلى موقف الأدبين الأدب العربي والأدب الأوربي.
ذلك أن كل أدب أوربي له قديم وحديث، والأدب الحديث هو الذي يناسب جمهور المتعلمين وعامة الشعب لأنه في الغالب يعرض لما يشعرون به فيعبر عنه التعبير الفني، فالأديب المحدث يرى ظاهرة اجتماعية فيضعها في قصة أو منظراً جميلاً فيضعه في قصيدة، أو معنى أثارته في نفوس قومه أحداث سياسية أو اقتصادية فيضعه في مقالة أو كتاب، فيقبل