نجتمع الليلة - أيها السادة - لنناجي القلب ونحادث الروح. ومناجاة القلب طهرة لمن شاء أن يتطهر، وصفاء لمن أراد التبرؤ من الرجس والدنس. ومحادثة الروح عروج إلى سماء النور والملائكة، وصعود إلى عالم الفيض والإلهام. نجتمع الليلة لنهجر الأجسام زمناً ونفرغ إلى نفوسنا حيناً. والجسم والنفس كانا ولا يزالان في صراع دائم ومعركة مستمرة، يقدر فيها لأحدهما الفوز تارة وللآخر أخرى. وقد يبدو غريباً أن نتحدث عن فيض وإلهام وروح ونفس في عصرنا الحاضر الذي طغت فيه المادة على كل شيء، فأصبحنا لا نؤمن إلا بكل مشاهد، ولا نسلم إلا بكل مرئي. بيد أنا حتى في هذا العصر المادي نشعر بحاجة ماسة إلى كشف ما غاب عن أبصارنا وانطوت عليه نفوسنا، ونركن كثيراً إلى ما تمليه ضمائرنا. وما دام فينا قلب يخفق وعاطفة تتأجج، فإنا لا نستطيع إنكار لغة القلوب والأرواح؛ وإذا تتبعنا المذاهب الفلسفية على اختلافها وجدنا أنه لم يخل واحد منها من نزعة صوفية. وها هو ذا أرسطو الذي كان واقعياً في بحثه وطريقته، ورجل مشاهدة وتجربة في ملاحظاته واستنباطاته، قد انتهى به الأمر إلى أن بنى دراسته النفسية على شيء من الفيض والإلهام، ووضع في قمة الأخلاق فضائله العقلية التي هي أسمى درجة من درجات التأمل والمشاهدة الصوفية
حقاً إن الإدراكات الروحية والإلهامات القلبية قد تكون غير يقينية، أو قد يعز على الأقل إثباتها ببراهين قطعية يتقبلها الآخرون؛ إلا أنها مبعث طمأنينة وهدوء وسكون؛ ذلك لأنها معرفة شخصية مباشرة؛ والكلام إذا خرج من القلب وصل إلى القلب. وكم يجهد الإنسان نفسه في صوغ الأقيسة وإقامة البراهين لإثبات أمر ما دون أن ينعم بالهدوء والسكون اللذين يحس بهما حين يناجيه قلبه وتخاطبه روحه. وقديماً مر الغزالي بمراحل من البحث والنظر، واشتغل بدراسات كثيرة، ولكن لم تطب نفسه إلا للمعرفة الصوفية تفيض عليه فيضاً ويلهمها إلهاماً. وحديثاً شك ديكارت في كل شيء، اللهم إلا في نفسه وتفكيره. ولما انتهى إلى هذه الحقيقة الثابتة كانت أساس اليقين في رأيه ونقطة البدء لكل فلسفته. وهناك فلسفات قامت بأسرها على المناجاة الروحية والاتصال بالله؛ فأفلوطين في مدرسة