للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الإسكندرية يرى أن الجذب والفيض هما السعادة التي ليست وراءها سعادة؛ وقد جد شخصياً في تحقيقهما طول حياته، ولم يحظ بهما إلا بضع مرات. ومالبرنش في القرن السابع عشر يقول باتصال مستمر بين العبد وربه. فمعرفتنا ليست إلا فيضاً من الله، وما يبدو منا من عمل خارجي ليس إلا ظروفا ومناسبات لتحقيق إرادة الله، وبهذا يتلاشى المخلوق في الخالق، ويندمج الأثر في المؤثر.

لسنا نحاول هنا التحدث عن التصوف في جملته، ولا التعرض لمختلف مظاهره وأدواره منذ نشأته، وإنما نريد فقط أن نفصل القول في نزعة صوفية سادت الفلسفة الإسلامية؛ فنتبين كيف تكونت وشبت ونشأت، ونشرح الأصول التي صدرت عنها، والعوامل التي أثرت فيها، ونحدد مدلولها ومرماها. وإذا ما تم لنا هذا استطعنا أن نوضح آثارها ونتائجها. فحديث القلب والروح الذي نحن بصدده مقصور على ما جاء به الفلاسفة المسلمون، ووقف على الجانب الصوفي في الفلسفة الإسلامية. وما كان أجدرنا في بحث كهذا أن نستعمل لغة خاصة وأسلوباً خاصاً، بل وأن نلجأ إلى مكان خاص، فان لغة العقل تعجز أحياناً عن التعبير في دقة عما يكنه القلب، وأسلوبنا المشوب بشوائب مادية قد لا يجد السبيل إلى وصف الإلهامات النفسية، والأرواح التي تسبح في عالم النور تعز مناجاتها في حيز المادة والجسم المحدود. وعلّ الصوفية مصيبون في التزيي بزي خاص، كي يتفق ظاهرهم مع باطنهم، وفي اتخاذ لغة معينة تفصلهم عمن سواهم؛ غير أن هذه اللغة زادت آراءهم تعقيداً، وكست نظرياتهم بثوب كثيف من الغموض والإبهام. وسنجتهد في أن نجلي غامضها، وأن نقربها ما استطعنا من العرف المألوف.

عني الباحثون من قديم بدراسة التصوف الإسلامي في جملته مدفوعين غالباً بما في الموضع من طرافة، ومحاولين أن يكشفوا ما احتواه الإسلام والشرق من حقائق وأسرار. ويغلب على الظن أن الأبحاث الصوفية أول موضوع استلفت أنظار المستشرقين؛ ولا تزال هذه الأبحاث محل عنايتهم حتى اليوم؛ ومؤلفاتهم فيها تزيد كثيراً على ما كتبوه في الدراسات الإسلامية الأخرى. ولا غرابة فالغرب متعطش دائماً إلى تعرف صوفية الشرق. وكأن هذا الأخير وهو مصدر النور والضوء أبى إلا أن يكون في الوقت نفسه مقر القوى الخفية والأسرار الغامضة. ودون أن نعرض لكل من اشتغلوا بموضوع التصوف من كبار

<<  <  ج:
ص:  >  >>