أتذكر - يا رفيقي - يوم إن تخرجت في الجامعة، يوم كنت تدلُّ بقسامة الوجه ونضارة الصفحة، وتختال بصلابة العود وانفتال العضل، وتفخر بقوة الشباب ونشاط لحياة، وتعتز بالسعة في الرزق والإشراق في المستقبل، وتتيه بوظيفتك الحكومية على صحابك وذوي قرابتك، وتزهى بميراثك من أمك وقد اغتصبته من أبيك منذ أن تخرجت في الجامعة ضناً به عليه وعلى اخوتك من أبيك؟
وركبك الغرور والشيطان، فأنت في سعة من المال والعلم، وأنت في وظيفة تدر عليك ما يفيض عن حاجاتك، وأنت عزب تعيش في نوازع نفسك ورغبات قلبك، هي لا تكلفك كثيرا، فما تنزع بك إلى فاحشة، ولا تندفع بك إلى فجور. فقضيت سنوات منطوياً على نفسك، تبيت تحصى ما ادخرت، ثم تودعه درج مكتبك، أو مكتب البريد، فادخرت مالاً.
وجاءك أبوك - ذات مساء - يستعينك على أمره، وقد عصرته الحاجة، وجلس إليك في خلوة يحدثك بذات نفسه يقول (. . . . وأنت تعلم - يا بني - أنني قد ضربت بداء أعضل على الأطباء شفاؤه، وأنا بين الأطباء كالشاة يتجاذبها الذئاب ثم لا يلفظونها إلا رمة. وللطبيب أفانين طبية تبتز مال الفقير، وتستلب ثراء الغنى، ومن ورائه القانون يشد عضه حين يمسك بالمشرط، وحين يسك بالقلم؛ فأبتلع الطبيب والمرض في أشهر ما ادخرت في سنوات، وأولادي كثير بينهم الشاب والصبي والرضيع، وأخشى أن تكشفني الكواشف وأنا في قرية شيدت على البغضاء والشحناء، وبين أهل أنطبعوا على الحقد والضغينة والغل، يخفونها وراء ستار صفيق من الحب والمودة والإخاء، وهم بين صغير يتربص بالكبير أن ينحدر إلى الهاوية، وفقير يتمنى للغني أن ينهار إلى الحضيض؛ وإذا نزلت بواحد نازلة ابتسم الجميع في غل وشماتة، وتندروا به في سخرية وتشفي، ثم قال قائلهم - وهو في يسر وغنى - (آه، لو أستطيع أن أعينه على بلواه!) ثم يتوارى خيفة أن يعين قريبه بفضله من مال. . . . . وأنت، يا بني، رجل ذو مال، ولقد جئتك لتقرضني بعض مال أستر به ضعفي وحاجتي. وهذه (كمبيالة) بالمبلغ الذي أريده).
وكانت كلمات أبيك تتدفق أسى وحزنا، ونفسه تتقطر ذلة وانكسارا، وأحس وهو إلى جانبك