يحدثك حديث حاجته أنه ينحط بكرامته وينزل عن كبريائه، وكانت سلوته انك أنت ابنه وله عليك حق. ولما أتم حديثه نظرت إليه في ترفع وصلف ثم قلت:(يا أبي، إن حاجات المدينة لم تدع لي وفرا من المال، وأنا لا اعرف من استقرضه لأدفع لك ما تريد)!
آه، يا قلبي! لقد أحس أبوك بالضعة حين رآك تستعلي عليه، وشعر بأن كلماتك الجاسية تصفعه صفعات قاسية متتالية، وأراد قلبه أن يبكي حسرة وكمدا، ولكن الدوار كان قد غلبه، فترنح حينا ثم سقط بين يديك. . . سقط فما رق قلبك ولا اضطربت نفسك!
وخرج أبوك من لدنك وهو يتمتم بكلمات لم تسمعها أذن. . . ماذا قال؟ ليت شعري! هل كان يستنزل سخط السماء على ابنه العاق؟!
وعاود المرض يعركه عركا شديدا من أثر فظاظتك وخشونتك، وألح عليه السقام فما تركه حتى مات. . . مات أبوك لأنك أنت فقدت إنسانيتك ورجولتك، ولأنك نسيت أنك أبن أبيك!
وظن اخوتك الصغار أنك الأخ الأكبر، وأنك أنت الأب بعد أبيهم، ولكنك كنت قد وجدت في قلبك حلاوة المال ولذة المدينة، فانطويت عن القرية، وابتعدت عن أهلك وأقاربك، ثم انطلقت تنعم بالحياة، وتتلذذ بالرخاء، وترتاح إلى الوفر، واخوتك في القرية يتنازعهم شظف العيش، وجفوة الحياة، وغلظة الأهل، وقسوة الأقارب، فعشت أنت وعاشوا: وما تبض كفك بدرهم وما ينبض قلبك بعاطفة!
وتماديت في قسوتك، فرحت تفزع الطير الآمن عن عشه: هذه دارك ودار أبيك، تقاسمتماها على سواء، لأنها ميراثكما من أمك ن وهي عش اخوتك الوحيد، منذ أن ولد كبيرهم. وها أنت تصر عليه أن يدفعوا أجر نصيبك من الدار التي يسكنون. وأصررت وأصرت المحكمة الحسبية. ثم وافقت المحكمة الحسبية - بعد لأي - أن تباع الدار في مزاد علني، فاشتريتها أنت، اشتريت نصيب أبيك (المرحوم) لأنك تجد المال، ثم قذفت باخوتك خارج الدار، لأنك لا تجد الإنسانية، وأفزعت الطير الآمن من عشه، وهو قد اطمأن إليه منذ سنوات وسنوات. وجاءت زوجة أبيك وابنها الأكبر - أخوك - يسألانك المهلة والرفق، فما أعرتهم أذنا صاغية!
ونسيت أن زوجة أبيك قد كفلتك طفلا، وإنها كانت أحنى الناس ضلوعا عليك يوم أن اصطلحت عليك العلل وأنت صبي، وحين قرر الطبيب أن المرض معد تحاماك كل