من الأقوال المأثورة أن الحاجة تلد الاختراع وتفتق الحيلة. وهذه الحاجة التي ضمَّنها الله عمارة الأرض ورقي العالم، هي التي جعلت بيئة الفقر مهبط الإلهام ومنبت العبقرية. فأينما تجد الحاجة تجد العمل والذكاء والقوة، وحيثما تر الغنى تر الكسل والغباء والرخاء. ذلك لأن الفقير يضطره العيش إلى أن يفكر فيجيد التفكير، وإلى أن يعمل فيتقن العمل، وإلى أن يهاجر فيزداد بممارسة الشدائد ومنافسة الناس جلاء في الذهن وبسطة في العلم وسعة في الحيلة. ومواهب العقل كأعضاء الجسد تقوى وتنمو بالكد، وتضعف وتضمر بالعطلة. ولا يصعب عليك أن ترى مصداق ذلك في الفروق الذهنية والعلمية الواضحة بين أبناء الفقراء وأبناء الأمراء، وبين سكان مصر العليا وسكان مصر السفلى، وبين بلد كدمياط وبلد كالفيوم، وبين مدينة كأتينا ومدينة كرومة في الغرب القديم، أو بين قطر كفينيقية وقطر كالعراق في الشرق الغابر. ففي كل من ذكرت لك ترى أن جدب الأرض وضحولة الموارد كانا علة في إخصاب العقول وإنما المدرك وكثرة الإنشاء ووفرة الإنتاج، وأن خصب البلد وسهولة الأرزاق كانا سبباً فيما أصاب بعض الناس وبعض الأجناس من البلادة والقعود والترف والغفلة
تستطيع أن تقول إن مصر في جملتها بلد غني يؤتي أُكله كل حين بيسير الجهد وقليل النفقة. فأهله آمنون من موت الجوع، لأن الفقير يملك أن يمسك روحه بنصف قرش، وما أيسر ما يجد قرشين في اليوم بالعمل الحقير أو السؤال الملحف. ومتى حصل المرء من بلده على الكفاف والراحة والأمن، نشأت في نفسه فضيلة القناعة الزائفة. والقناعة في الفقير كالثروة لدى الغني، كلتاهما تقتل طموح النفس، وتسكِّن قلق الروح، وتخمد نشاط القريحة، وتحمل الرجل على الرضى بالدون والتسلم بالواقع
هذا الفقير القانع الذي لا يحس بالحاجة فلا يسعى للغنى، وهذا الغني الوادع الذي لا يشعر بالنقص فلا يطمح إلى الكمال، هما الأثر السيئ لتدليل النيل لبنيه وحَدبَه البالغ على أهله. فالفلاح لا يزال يزرع الأرض بالآلة القديمة على الطريقة القديمة، لأنه لا يجد في نفسه الحاجة التي تحفزه إلى اختراع آلة وابتكار طريقة ما دامت أرضه تغل عليه ما يكفيه بهذه