والصانع لا يزال يصنع بيده كل اليوم ما تصنعه الآلة في بعض الساعة، لأنه يجد في جيبه آخر النهار ما يملأ به بطنه بخسيس الطعام وغليظه؛ فعلام يشغل ذرعه بما يقلل النفقة ويكثر الإنتاج ويحسن النوع؟
والطالب يقصر جهده على استظهار المختصرات لأن الامتحان لا يخرج عن هذه المذكرات، والوظيفة لا تطلب إلا بعضاً من الحساب وشيئاً من المصطلحات؛ وما غناء العلم بعد أن ينال المتعلم الشهادة والوظيفة؟
والمعلم يحصر نشاطه في كتب الدراسة وما يتصل بها من مقترح التمارين وموضوع الأسئلة ومحلول المسائل، ثم لا يفكر بعد ذلك في درس مشكلة من مشكلات التربية، ولا حل معضلة من معضلات المجتمع، لأنه ضمن لنفسه المراتب آخر الشهر والعلاوة آخر المدة
والكيميائي أو الفيزيائي يبلغ الدرجة الجامعية العليا في الكيمياء أو الفيزياء، ثم يعلم أن أقرانه في البلاد العاملة الجادة لا ينفكون يسخِّرون للمدنية والإنسانية قوى المادة وأسرار الطبيعة في شكول مختلفة ومظاهر متعددة: في البيت والمدينة، وفي السماء والأرض، وفي السلام والحرب، ولا يفكر عالمنا الكبير أن يزيد في العلم بكشف مجهول، أو يرفه عن العالم باختراع آلة، لأنه لا يبتغي شيئاً وراء اللقب الفخم والمرتب الضخم والحياة الوديعة
والطبيب أو الصيدلي يجعل كل همه في رواج عيادته أو صيدليته، لأن المال هو غايته من الطبابة أو الصيدلة، فإذا بلغها على حساب الطب المحفوظ أو الدواء المجهز فلماذا يكدر صفو عيشه بالاحتباس في معمل ينقب عن جرثومة مرض، أو يجرب مفعول مصْل؟
والسياسي أو المصلح يتوخى بعمله مجد الشهرة وجاه الحكم، فإذا أدركهما بتملق الجمهور أو بعصبية الحزب فلا عليه بعد ذلك أن يظل حزبه من غير منهاج ولا غاية، وأن يزاول عمله الخطير من غير خلق ولا دراية. وإذا كان الرمق في هذا البلد بسد بنصف القرش، والوظيفة تنال ببعض العلم، والمنصب والمراتب يعظمان بمضي المدة، والشهرة والجاه يدركان بإرضاء العامة، والزعامة والحكم يبلغان باحتراف السياسة، فأي شيء يدعو إلى زيادة العلم وإطالة الفكر وإدامة العمل وإضاعة الجهد والعمر في تحرير مسألة، أو تأليف