كنت في الريف ليلة نعى الناعي الزعيم أحمد ماهر باشا. وكان من امتحان القدَر لصبري أن يروَّعني هذا النبأ الفاجع الفاجئ وأنا في وحدة من الناس ووحشة من الطبيعة، لا أرى ولا أسمع ولا أحس غير وكيف السحاب وزفيف الريح وشفيف البرد، فأقبع في الغرفة قبوع القنفذ، وأنشر فكري في معاني هذا الرزء الوطني الفادح، أسبر غوره، وأقصي أطرافه، فأشعر بثقله كله يهبظ نفسي ويصدع قواي، فأستكين للجزع وأستسلم للشجون!
ويتمثل لعيني منظر الصريع المسجىَّ على فراشه الدامي، وحوله ابنته وزوجته وأخوته هلعين مشدوهين لا يكادون يصدقون أن هذا الجسد الهامد هو رجلهم الذي تركهم منذ هنيهة وقدرته فوق الأحداث، وهيبته طي القلوب، وذكره ملء الأسماع، وعمله حديث الألسنة، وأمله سعة الدنيا، فينفر عني النوم، ويطول علىَّ الليل، وتهون في نفسي الحياة!
وفي الصباح الباكر من يوم الأحد كان القرويون يتناقلون النبأ العظيم، وعلى كل وجهٍ سهوم الحزن، وفي كل قلب لهيب الحسرة، كأنما وشجَت بهم جميعاً قرابة الفقيد، فمصابهم فيه واحد، وحزنهم عليه مشترك. وتلك ظاهرة اجتماعية لم يسجلها مرصد التاريخ من قبل أحمد ماهر إلا سعد زغلول. وتعليل هذه الظاهرة أبين من أن يُبين؛ فقد كان ماهر كما كان سعد زعيماً شعبياً تألق اسمه في سطور تاريخنا الحديث تألق النجم الهادي، وتردد ذكره في حوادثه الجَّلى تردد النشيد الحماسي على أفواه الجند، وكان له ولرفيقه في الجهاد وخليفته في الحكم - أطال الله عمره - من فضل التدبير والتنظيم والفعل، ما كان لرئيسهما الخالد من فضل التنبيه والتوجيه والقول. ثم كان ظهور سعد للزعامة حين أبطرت الحرب الماضية نفوس الغالبين، فسطت قوة الغالب على حق الوطن، وسيطرت إرادة المحتل على رغبة الأمة، وتطامنت الرءوس فلا ترتفع، وانعقدت الألسن فلا تنطق، فتميز واشتهر بشجاعته وكفايته وبلاغته وقدرته. وكان ظهور ماهر للزعامة حين أضلت الحرب الحاضرة عقول الحاكمين والمحكومين، ففسدت الأخلاق، وماتت الضمائر، وتحكمت الشهوات، وانتهكت الحرمات، وخست المطامع، فتميز واشتهر برجولته وصراحته ونزاهته وحريته.
كلا الزعيمين كان رجل الساعة في وقته، وحديث الأماني لقومه؛ ذلك لدعوة الإيقاظ والثورة احتجاجاً على صلح كفر بالعدالة، وهذا لدعوة الإصلاح والوحدة والوحدة استعداداً