لصلح يؤمن - كما يقولون - بالحق، ومن ثَم كان الحزن عليهما حزناً شعبياً أحسه القريب والبعيد، وأخلص فيه الخصيم والولي.
والحق أن الحزن على الفقيد الشهيد قد غزا القلوب الغُلف والأكباد السود، فما ظنك بمن يعرفونه عن كثَب، أو يمتون إليه بسبب، أو يقرون بفضل؟ والإقرار بفضل أحمد ماهر قد بلغ حد الإجماع، إن لم يكن من جهة كفايته فمن جهة خلقه. والخلق في الرجل السياسي هو المزية التي يجزي عما عداها، والثروة التي لا يبلغ العلم والمال والسلطان مداها. وأخلاق أحمد ماهر كانت أخلاق الرجل الذي يعده القدر ليرفع أمته إلى الفوق ويدفعها إلى الأمام. كان أكرم الله مثواه وبرد بالرحمة ثراه، مؤمناً بما يدعو، مخلصاً فيما يعمل، صريحاً فيما يقول، جريئاً على ما يُقدم، عفيفاً عما لا يحل. وتاريخه كله مصداق لأصالة هذه الصفات النادرة فيه. جاهد في استقلال بلاده حق جهاده، ففكر وقدر، ثم جهز ودبر، وترصدته العيون، وانفجرت من حوله المخاطر، وأشفى به الإقدام على هوة الموت، فما نكص ولا وهن ولا استكان، ولم يكن يومئذ للمجاهدين أمل في منصب، ولا رجاء في حكم.
ورأَس مجلس النواب في حكومة الوفد فتجلت خلال الديمقراطية فيه: كان الوفد عنده أصغر الأحزاب حين ينتصف لغيره منه؛ وكان رئيس الحكومة عنده أضعف النواب حين يطبق (اللائحة) عليه، وكان الدستور قسطاسه المستقيم لا يصدر إلا عنه ولا يرجع إلا إليه.
وتولى المعارضة حيناً من الدهر فكان عف اللسان عن الهُجر. عف الضمير عن الفُجر، عف الفكر عن المغلطة، عف النفس عن الخديعة، يعالن بالمخالفة ويعتمد في إعلانها على الصدق والجد، ويصارح بالتهمة ويستعين على إثباتها بالحق والمنطق، وينفرد بالرأي ويجعل له من قوة إيمانه وثبات جنانه السندَ الذي لا يهي والدليل الذي لا يدفع. ومواقفه في (المجلس) و (القصر) لا تزال عطر الأفواه والأندية، فلا حاجة إلى ذكرها.
ثم رأس الحكومة، والخصومة الحزبية على أقبح ما تكون عنفاً وحدَّة، والأخلاق الاجتماعية على أسوأ ما تكون اعتلالاً وردَّة، والسياسة الدولية تتمخض عن أحداث جسام ستغير أوضاع الأرض وتبدل أنظمة الحياة، فساسها بالصراحة والسماحة والحرية والعدل، فمكن لكل ذي رأي أن يرى، ولكل صاحب قلم أن يكتب؛ ومهد لائتلاف القلوب واتحاد الكلمة