بالمسامحة لاستلال ما في النفوس من سخيمة، وبالمشاورة لتهوين ما في المعارضة من خلاف، وأوشك أن يقول لنفسه:(عدلت فأمنت فنمت يا عمر)، لولا أن الخوارج لا يزالون أحياء، وأن أبا لؤلؤة لا يزال له في مصر أبناء! وهكذا تجري تصاريف القدر بما غُيب عن ابن آدم علمه، فذهب أحمد كما ذهب عمر صريع جنون أو فتنة. ولو كان أحمد أو عمر أو سائر الأسماء العظمى علما على رجل لهان فيه الخطب وتيسر عنه العزاء، ففي كل ساعة من ساعات الليل والنهار تبتلع القبور ألوفاً من الأنفس فلا يُعقبون فراغاً ولا دهشة؛ إنما هو عَلم على ثروة ضخمة من الخلق والعلم والمواهب والتجارب عمل في تكوينها مع الطبيعة الحرة والزمان الطويل عوامل جمة وأحوال مختلفة، حتى أصبحت قوة في طاقة الإنسانية وقطعة من ثروة العالم. ففقدها يحدث في سير الحياة من الخلل ما يحدثه فقد الضرسن الصغير في الدولاب الكبير. ذلك الخلل هو الفراغ الذي يحسه الناس بموت العظيم. وعلى مقدار العظمة يكون اتساع الفراغ. وإن الفراغ الذي أحدثه في صف القادة مصرع أحمد ماهر فراغ مثله في نواحي الحياة المصرية أودى الزمن بشاغليه، ولم يستطع شَغله بأمثالهم، فاضطرب المسير وأبطأ التقدم.
نحن فقراء إلى الرجال ذوي الخلق والكفاية، وليس لنا وا أسفاه في توفيرهم حيلة، لأنهم من صنع الله لا من صنع المدرسة، ومن أثر الأسرة لا من أثر البيئة. وأمثال الأسرة الماهرية في الشرق قلية؛ أنجبت رجالا تميزوا على نظرائهم بأخلاق الرجولة. شق كل واحد منهم طريقه إلى المجد بنفسه، ثم ساروا إلى غايتهم في طرق متوازية لا تتلاقى. وعهدنا بالأسر الكبيرة إذا سما فرع من فروعها وغلظ تسلقه الآخرون كما يتسلق اللبلاب جذع النخلة. هم يعملون للمجد أكثر مما يعملون للعيش، ويبذلون للناس أضعاف ما يبذلون للنفس؛ فهم في العظماء لا في الأغنياء، وفي معنى السماء لا في حقيقة الأرض! فما أجدر هذه الأسرة أن تُدرس لتكون لأسرنا قدوة! وما أخلق الشباب أن يتخذوا لهم من رجالها أسوة! وما أحق مصر أن تجزع جزع الثكلى على من يعز الصبر عليه ويستحيل العوص منه!