تكلمت في مقال سابق عن التبعة التي تقع على عاتق مجلاتنا الأدبية الكبرى، من جراء تيسير نشر مقالات (لكتاب) معروفين بالفهم السقيم والغباوة. وقد خشي قوم أن نرمي إلى الحد من حرية النقد، والواقع أنه لا نقد في مصر
قد نقرأ في الصحف من آونة لأخرى مقالاً قيماً مفعماً بالرزانة والاعتدال، وسطاً بين الإفراط والتفريط، ولكن الشاذ لا يمكن اتخاذه قاعدة في الحكم على الأشياء. وقل أن تجد كاتباً في نقده الكتب يدرسها ويحللها كما يفعل كتاب الغرب. وأكثر ما نرى الإفراط في المدح تارة، وفي الذم طوراً. ومن الغريب أن كتابة أولئك النقاد لا يمكن (مناقشتها) لأنها لا تستند إلى منطق من الذوق أو الفهم، وإنما تستند إلى شهوة تدفع صاحبها إلى الكتابة إرضاء لغاية شخصية أو إرواء لغلة حسد أو حقد تأكل صدره
وخير لأولئك النفر أن يريحوا أنفسهم قليلاً فانهم لن يبلغوا الجبال طولاً، ولن يخرقوا السماء أو الأرض بقلمهم، ولن يقف الفلك الدوار من جراء ما يكتبون
وفي مصر (كتاب) كثيرون يتوهمون أنهم في مقدورهم أن يأخذوا الشهرة غلاباً، وأن يسخروا التاريخ لتسجيل ما تكتبه عنهم الصحف، أو ما يكتبونه هم عن أنفسهم في الصحف، وما ينتحلونه من صفات، كأن يدعوا أنهم من (كبار) الكتاب. وإني لأذكر بهذه المناسبة أن ممثلاً أعلن عن نفسه مرة أنه (الممثل العالمي) وأعلن عن شوقي في الوقت نفسه أنه (شاعر النيل). ولما كان العالم يسع النيل والسين والطونة والرين ومئات الأنهار والبلاد أخذت شخصية شاعرنا تتضاءل شيئاً فشيئاً، بينما وقف الممثل كالمارد الضخم يطأ بإحدى رجليه المشرق وبالأخرى المغرب. . .
وقد وقع كثيرون من رجال السياسة في عين الخطأ الذي وقع فيه بعض رجال الأدب، فأصبحوا يعتقدون أن الدعاية هي كل شيء، وأنها (تصنع) التاريخ كأنما كان التاريخ عبداً (نلقنه) ونأمره بكتابة ما نريد فيطيع. . . ناسين أن التاريخ هو أمس واليوم وغداً، وإن الفلك يدور، وأنه في دورته يغربل الحوادث والرجال، ويضع الأمور في نصابها، وأن حياة الأمم مكونة من أجيال فإذا ظلم جيل أنصف جيل، وأن الناس متباينون في طبائعهم