قال صاحبي وهو يحاورني: ما أنا بمؤمن بما زعمت لي من رأي
فقلت أي رأي تريد؟ فما أكثر ما جادلتني مذ أخذت فيما أنت آخذ فيه هذه الأيام من قراءة الفلسفة
فقال: ألا تذكر إذ كنت تسايرني وتسامرني في مماشي حديقتك الغناء ليلة الهجرة؟ ألست تذكر حين أخذت تقص علينا كيف أوذي النبي في مكة فهاجر إلى المدينة، وكيف نشب القتال بين المسلمين والكافرين، حيث اضطرمت نفوس المؤمنين بحماسة الإيمان فاندفعوا يريدون: إما نصرة الدين وإما الخلود في دار النعيم؟. . . وعندئذ أبصر زميلنا (م) المتفلسف الشكاك بزهرات متناثرات هنا وهناك، فقهقه ساخراً وهو يقول:(خلود!) ثم أدار عينيه ناحية الجدار فإذا هو يرى جماعة من النمل عركتها قدم فلبثت جامدة على الأرض صرعى حيث كانت، فارتفعت قهقهة الزميل مرة أخرى، ورنت فيها نبرات السخرية التي عهدناها في ذلك الزميل الساخر. . .
فقلت: نعم، إن لما تقول لأثرا خافتاً كادت تنمحي من صفحة الذهن معالمه فلا أكاد أتبينه في وضوح، فما الذي أضحك (م)؟
فقال أضحكه أن يرى منثور الزهر ومبتور النمل راقداً كأنما هو جثث القتلى في حلبة القتال يوم المعركة، وقد علق بقوله: أليست الحياة هي الحياة حيثما تبدت في بشر أو حشر أو زهر؟ أي فرق ترى بين زهرات تطأها فتذويها، ونمال تعركها بقدمك فترديها، وجماعة الجند في حومة الوغى تصفعهم بالحديد والنار فتوردهم موارد الحتوف؟ لكنه الإنسان المغرور ظن بنفسه الامتياز فاختص روحه بالخلود والبقاء، وطوح بسائر الأحياء في مهاوي البلى والفناء. . .
ولست أكتمك الحق يا صديقي، فقد أخذت أعيد قول زميلنا (م) بيني وبين نفسي، وأديره مرة بعد مرة في رأسي، حتى ارق الفكر جنبي في غير طائل؛ فبعد طول التفكير لم أجد في قبضتي غير ريح، ولم يكن حصادي سوى هشيم! ولجأت إلى كتبي أقلب صفحاتها، أنزع كتاباً وأضع كتاباً، فما صادفت غير الحيرة والشك المميت؛ فما زلت أسائل نفسي بما