سقيتني يا دنيا بكأسيك في يوم واحد! وكنت شاعرة حاذقة حين قدمت إلى هاتين الكأسين في وقت يكاد يكون واحداً؛ حتى امتزجت في مذاقي المرارة بالحلاوة. . . وكنت صديقة مخلصة ناصحة في معاملتي حينذاك
قدَّمت إلى كأس الحنظل حين توجهت معزياً إلى عش ذي أفراخ زغب طارت عنه صاحبته وبانيته: أمهم الحمامة الوديعة التي أتت بهم خمسة متلاحقين، ثم مضت عنهم وخلّت بينهم وبين أبيهم. . .
وجلست أنظر فيهم من الصغير إلى الكبير - وسنه ثلاث عشرة سنة - ثم أحادث أباهم الواجم الباسم الحمول. . . ثم أطير بخيالي فجأة إلى قبر الحمامة الولود. . . ثم أرجع إلى نفسي أختزن فيها قوتها من بيدر الحزن الرفيع الذي أمامي، لأن مادة نفسي في مجاعتها. . .
قال لي الفرخ الأصغر: أمي سافرت إلى بعيد، وسترجع، ومعها حلوى ولعب. . .
فقال الذي يليه: لا، أمي ماتت وبكيت عليها مع النسوان. قال هذا وهو يضحك، فطفرت الدموع إلى عين الأكبر وحَدَرت، فخرج من الحجرة ليخفي البكاء وخرج وراءه أبوه، ووقفت أخته على باب بيننا وبينها، وارتسمت علامات وجوم متدرجة على وجوه الأطفال بحسب أسنانهم وإدراكهم، وبقي الأصغر يضحك وأنا معه أضحك بدموع، وأرشف من الكأس المرة!
ماذا عسى الأب أن يقول لابنه الأكبر الباكي في مثل هذه الحالة ليصرف عنه البكاء؟ أيقول له إن أمك مسافرة وسترجع إليك بحلوى ولعب؟ لا يصدق. . . أيقول له: سلم لله لأن الموت آخر الحياة، وهو منجل يحصد العاهل والباهل. . . وما إلى ذلك من (أجرومية) التعازي؟ لا يفهم ذلك لأنه لم يبلغ مبلغ من تطفئه هذه الأفكار. . . إذاً فالأولى أن يتركه حتى يذهب عنه وجدان الحزن فتجف دموعه وحدها
وشعرت كأن روح الأم حضرت البيت في ذاكرة الأطفال إزاء هذه الأزمة النفسية فبكى قلبي، وتكلفت المبالغة في ملاعبة الأصغر حتى ألهيه عن أخيه وعن نفسي، وجلست برهة