لا جدال في أن موقع لبنان الجغرافي يجعل منه بلداً متعدد الرسالات. فهو قائم في جبهة الشرق الأدنى على مفرق الطرق بين الشرق والغرب. تمتد سواحله المستطيلة على شاطئ هذا البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات والمدنيات العريقة التي تعاقبت على الجنس البشري منذ فجر التاريخ.
وهذا يعد بالحق من أجمل بقاع الأرض، خلعت عليه الطبيعة أبهى الحلل، وكست ربوعه بمختلف المحاسن والمغريات، فأضفت على جباله الشامخة روعة الجمال والجلال، تكلل نواصيها لآلئ البرد وبريق الثلج، وتجلل آكامها نواتي الصخور وبواسق الشجر، وتتفجر في جنباتها انهار وجداول تتدفق باللجين المصفى وتنساب بين الصخور والمروج في أودية رهيبة أخاذة كثيرة التعاريج فتانة الصور تبهر العين وتسحر اللب، وتأخذ بمجامع القلب.
ولبنان فوق ذلك، بلد معتدل المناخ طيب الهواء والماء، يتسربل بأروع المشاهد في مختلف فصوله: صيفه روح للب وراح للقلب، وخريفه بهجة للنفس وغبطة لها، وشتاؤه شلال زاخر وثلج مندوف باهر، وربيعه رمل مخضوض ورجاء عابق بالشذا، ومدنه وقراه جنان متنوعة الأشكال، بعضها قائم على الشواطئ يهدهدها البحر ويداعبها بكره وفره. وبعضها منتشر بين السفوح والتلال انتشار النجوم في الفضاء تحيطها هالة من الرياض الغناء المثقلة بأزكى الأثمار وأندى الأزهار.
أما آثاره القديمة فترجع إلى أقدم العهود، وكلها تدل على الدور العظيم الذي لعبه لبنان في مجرى التاريخ البشري، وتعبر بأجلى بيان عن الرسالة الإنسانية البارزة التي يحملها بين جوانحه وينشرها على توالي الأجيال في أصقاع المعمور.
وقد كانت أولى رسالاته في عصر الظلام المطبق رسالة الدعوة إلى قدح زناد الفكر وتشغيل الذهن لأجل تمييز الإنسان عن الحيوان وتبديل حياته الوحشية بحياة أقل همجية وأكثر ائتلافاً. فأبدع أبناؤه في العصر الحجري في اختراع أداتهم الصوانية وفي صنع