كانت رومية قد لفظت آخر أنفاسها عندما اقتلع زعيم حربي من الهمج المتبربرة تاج الإمبراطورية الرومانية من رأس إمبراطور صبيٍْ ابيض الوجه، وضَّاح الجبين، ليضعه فوق رأسه الكث الشعر، الملبَّد الفودين.
أما الزمان فسنة ٤٧٦ بعد الميلاد. وأما المسرح فدرجات فدرجات قصر رافِنَّا الرخامية.
كان الانحلال قد امتد إلى عظام رومية ينخرها منذ سنين، فأخذت مِرَّتها تضعف وقواها تتبدد شيئاً بعد شيء. أما آخر مشهد من مشاهد هذه المأساة التي مثلتها رومية على المسرح هذه الدنيا، فقد مرَّ مرور الحلم ولم يأبه له إنسان. وهنالك انسدل الستار على تلك المدينة القديمة وانطوت صفحاتها الخالدة. أما المستقبل فكان طوع يمين تلك الشعوب الفتية القوية التي انحدرت من الشمال.
خرجت تلك الشعوب من خلال المفاوز الجبلية المثلوجة، وانحدرت من هضاب الشمال الهاوية، وشقت طريقها إلى الجنوب حيث الأراضي الشامسة والحقول الخصبة. ولقد ركب بعضهم متن العباب على سفائن أشبه بالحيتان الضخام، وامتطى آخرون عجلات من ذلك الصنف الذي يستخدمه البدو إذ يرعون إنعامهم. ولقد اتخذوا في جوانب الطرق المرمرية التي أنشأها القياصرة العظام محاطَّ يضربون فيها مخايمهم، وكان البحر المتوسط مرمى أنظارهم؛ ذلك بأن رومية لم تجمع ثروتها الضخمة إلا من شطآنه
مضوا يهيمون في كل واد غاصبين مقاتلين، فنشروا الرعب والفوضى في ربوع المدائن القيصرية؛ وكانوا في جهالة؛ فساء تصرفهم، وفسدت أعمالهم؛ وقد تمضي عليهم فترة يتفرقون فيها أشتاتاً، ثم تنجدهم موجات جديدة من الهمج أمثالهم هابطة من الشمال أو من الشرق. ونُسِيَ القانون الروماني فأصبح الحق للأقوى، واحتكمت تقاليد العشيرة البدائية في الجماهير، تقاليد أولئك الذين نشَّأتهم صحراء غوبي المجدبة في جوف الصين.
وظل العالم الحاف بالبحر المتوسط خمسة قرون ميدانياً لتنقل تلك القبائل الهمجية ووحداتها الحربية. على إنهم إن ظلوا أمناء لتقاليد حياتهم البدائية، واحتفظوا بروح العشيرة، فإنهم في خلال لك الخمسمائة من السنين كانوا قد تقبلوا أثارة مما خلف العالم الروماني الإغريقي