طوى رومية ظلام القرون؛ فلما طواها خيم على أوربا ظلام الجهل والهمجية. ذلك الجهل وتلك الهمجية كان طابع الشمال، فعملت رومية جاهدة في أن تصد طغيانهما عن الجنوب قروناً عديدة؛ فلما لفظت آخر أنفاسها، استباحت فوضى الشمال حضارة الجنوب.
وكانت الغابات المرطوبة على عهدها لم تتغير، والخرائب المغبرة الحزينة على سابق حالها مذ سكنها البوم وأخذت تسبح في أفنيتها وتنتقل في كرومها القديمة. ولقد ألفتها الذئاب الجارحة تعيش جماعات متعاونة على الصيد والافتراس. أما المزارع فكانت رقعاً تتخلل الأرض الحجرية، حيث القرى بأكواخها المشيدة في لبنات ملاَطها الطين وسقوفها من البوص والهشيم، تقوم هنالك في سفح قصر منيف ذي أبراج ضخام لسيد من أسياد القطائع.
أما الرعاة فكانوا ينامون في العراء، وفي الوديان المخيفة الموحشة؛ ما يؤنسهم من شيء إلا المفترس من الحيوان والجارح من الطير. ذلك لأن مفاوز الغابات كانت مآهلهم الأمينة ومرابيهم الأصيلة
وهنا وهنالك كنت تقع على ذلك التراب الأبيض السافي تتخلله قطع من الأحجار، إن نمت عن شيء فعن أن التراب والأحجار إنما هي بقايا طريق روماني براه الزمان
بين الفينة والفينة كان يمر بذلك الطريق يهودي من بني إسرائيل ومن ورائه شرذمة من الخيل؛ أو تاجر تحيط به كتيبة من حملة الحراب، وأقل ما يكون حدوثاً أن يثير غبار ذلك الطريق كتيبة لسيد من أسياد القطائع، فإذا مرت اجتمع من حولها أهل الحقول ينظرون مأخوذين من رجال تلك الكتيبة الأشداء، يؤخذون بمرأى الدروع السود المصفحة بالحديد، والملافع الكبيرة التي يغشى أطرافها الفراء.
قلّ من أهل الريف من رأى اكثر من ذلك؛ اللهم إلا أن يكونوا قد رأوا علامة الصليب الكبيرة التي تشير إلى التقاء الطرق وتفرعها في نهاية الوادي. أما ما وراء التلال فكان مجهولاً بل كان عدواً مخيفاً. ولم يكن لهم اتصال بالعالم الخارجي عن عالمهم هذا، اللهم إلا عن طريق الرهبان لابسي المسوح، أولئك الذين كانوا يجوبون الأنحاء حُفاة من دير إلى دير، أو عن طريق شاعر من مؤلفي الأغنيات، يمر عجلان إلى البهو ليتناول وجبة فاته