إذا قلت إننا أمة من غير منهج ودولة من غير سياسة لا تبعد عن الصدق! فإن التبعية المثلثة التي ضربتها علينا الأقدار الخصيمة في السياسة والاقتصاد والأدب قتلت في عقولنا الرأي الأصيل، وفي نفوسنا العزم المستقل، وفي مواهبنا العمل المرتجل. فنحن في مجموع الناس أتباع وأوزاع ننظر إلى الأمم تعمل، وإلى العالم يسير، بعين بلهاء لا يجاوز بصرها مدى العجب! وعلتنا أن ساستنا وقادتنا كلهم من رجال القول لا من رجال الفعل، ومن أرباب القلم لا من أرباب السيف، ومن جنود القانون لا من جنود (الأوامر)؛ ربوا على مقاعد المدارس، وثقفوا على مباحث الكتب، ودربوا على مكاتب الدواوين، وحرموا التربية العسكرية وهي وحدها القائمة على الخطة والنظام والأمر والتنفيذ والشرف؛ فكانت سياستهم سياسة الترقب والتردد والخوف، لا يصدرون ولا يوردون إلا عن فتوى فقيه، أو تقرير خبير، أو إشارة (مندوب)، أو رغبة سلطان، أو إرادة حزب؛ وذلك هو الفرق بين ساسة مصر وفلسطين وسورية، وبين ساسة العراق وإيران وتركية؛ فبينما تجد الأولين - وهم رجال قانون - مشغولين بالمفاوضات والمعاهدات والاحتجاجات والشكوى، تجد الآخرين - وهم رجال حرب - لا يتبعون غير قانون الطبيعة، ولا يفهمون غير سطور الجيش، ولا يعبأون إلا بالواقع، ولا يمضون إلا على العزم ولا يأوون إلا إلى الأمة
ففي مجلس من مجالس الحكم، أو في ناد من أندية السمر، تجول في خواطرهم الفكرة، أو تجري في نفوسهم الأمنية، فما هي إلا صيحة القائد حتى تصبح قانوناً مرسوماً كالخطة، ماضيا كالنظام، شاملا كالتعبئة؛ والعسكري لا يتردد ولا يتلكأ، وإنما ينطلق ماضي الصريمة قدما إلى وجهه: مبدؤه الأمر، وطريقه المعركة، وغايته النصر!
تدبر ذلك ووازن بين هذه السياسة الدبلوماسية التي تضطرب ولا تستقر، وتدور ولا تتقدم، وتناقش ولا تنتج؛ وبين تلك السياسة العسكرية التي تهجم ولا تضطرب، وتقدم ولا تتقهر، وتعمل ولا تناقش، فلعلك واجد في الموازنة تعليل هذا الشذوذ الذي نحن فيه: أمة لا تقل عن أكثر الأمم رجالا ولا مالا ولا قوة، يدفعها ماض مجيد، ويحفزها حاضر ملح، ويغريها مستقبل واعد؛ ثم موقعها من أعظم المواقع، ومغرسها من أكرم المغارس، وعدتها الممكنة من خير العدد، وتراها مع ذلك لا تزال صاغرة تعطي بالقهر، وقاصرة لا تملك التصرف!
هل تجد بربك علة خمودها ووناها في غير قيادتها الرخوة وسياستها المستكينة وإرادتها