في العالم الأوربي والأميركي ملايين المثقفين الذين تلقي بهم المقادير مكرهين إلى المهن الضئيلة في غير رفق ولا رحمة، فلا يقال إن العلم بذلك قد أهينت كرامته وانتهكت حرمته، لأنهم يفهمون العلم على أنه سبيل الرجولة التي تدفع بصاحبها إلى الضرب في زحمة الحياة في غير ترددأوتبرم حتى يساهم في الإنتاج وقد أنف من أن يعيش حميلة على غيره. . أما نحن فنفهم العلم على أنه الوسيلة إلى المكاتب الفخمة والمراوح الجميلة والأبهة المرموقة والفخفخة المغبوطة، ولذلك أصبحت للعلم في مصر كرامة (محلية) خاصة بهذا البلد التعس ينبغي إن ذكرتها أن ترفق بها , وألا تشتد عليها وإلا فقد أدميتها بشدتك وآذيتها بقسوتك. .!
هذا الترفه في مظاهر الحياة آية الأمم عندما تدب إليها الشيخوخة ويمضي عهد شبابها. ولست أجد شاهدا على صدق هذا أعدل من الدولة الرومانية التي أصابت في عهد فتوتها من الغنى والثراء والأسرى ما أدخل الغرور إلى نفوس أبنائها، فمالواعن فلاحة الأرض واستثمارها، وجنحوا عن الاشتغال بالجندية إلى اللهو والترف، فلم يغن عنهم ما لهم وعبيدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعلومهم. وارتج عرش دولتهم أمام القبائل المتوحشة من الصقلب والكلت والجرمان. وما لبث التاريخ أن شهد مصرع الدولة العظيمة ومجدها يتوارى، وعزها يغرب، وجلالها يميل إلى الانحدار. .!
نعلم أن من طبيعة المجتمع أن يحن إلى الكمال، وينزع إلى المثل الأعلى، ولا يقيم على حب (الواقع) فيطمح إلى ما ينبغي أن يكون. ولا أكاد أشك في أن المجتمع لا يسعه أن يحقق مثله الأعلى كما ينبغي أن يحقق إن ظلت المهن التافهة مقصورة على الأميين والجهلة. لأن جمودهم الذهني وظلامهم العقلي يحولان دون تطور هذه المهن وتدرجها إلى الكمال. وهكذا حدثنا تاريخ الزراعة في مصر. . شغل بها الجهلة ومال عنها المثقفون من طلاب الزراعة الذين انطلقوا كلما أتموا دراستهم يبحثون عن وظيفة يظفرون فيها بالمكتب والمروحة وما إليهما من راحة ونعيم. . فكانت النتيجة أن الفلاح المصري ما زال يستخدم من الآلات ما كان يستخدمه أجداد أجداده الأولين. ولو مارس المهنة المثقفون من طلاب الزراعة لتطورت على أيديهم وسارت إلى الكمال بين الحين والحين. وبدت آياتها في شتى مناحيها، ولكن هؤلاء قد جهلوا أن غاية العلم تنحصر في (خدمة المجتمع). ولست