قد كان ذلك أثناء الحرب الصليبية التي ثار لهيبها في الشام نحو قرنين طويلين؛ وكانت جنود مصر العظيمة تحاصر مدينة إنطاكية إحدى المدن التي كانت لا تزال باقية في يد المسيحيين. وكانت جيوش مصر تحارب ببسالتها المعروفة لا يعرف أحد من جنودها ما معنى الخوف بل يهوي بفرسه كالصاعقة وهو يصيح صيحة الحرب فيوقع بعدوه الفشل فيتفرق ويتبدد، ثم يشيط في رماحه وسيوفه.
وكان منظر هذه الجنود مما يروق الأعين ويبهر الأنظار، فقد كان الفرس وراكبه قطعتين من آيات الفن ومبدعات الصناعة، فالفارس في ملبسه الحربي عليه العلامة الصفراء تبرق في شعاع الشمس وفوق جسده الدروع والسلاح يحسبها الناظر إليها من عسجد مصفى وإن كانت من صافي الحديد والفولاذ؛ وكانت ملابسه من تحت تلك الغواشي لا تظهر منها إلا أطراف مزركشة بالذهب أو أذيال من صافي الحرير والقصب؛ وكان الفرس يختال تحت راكبه كأنما هو يزهى بما عليه من زينة وحلية ويفاخر بمن عليه من نجد مغوار
ودافع المحصورون في إنطاكية دفاع الأبطال، لم يتركوا الأسوار حتى لم يبق بها ركن غير مثلوم، ولم يدعوا الضرب حتى لم يبق لمجانيقهم حجر يقذفون به أو نار يلقون بها على أعدائهم. وانتصرت جنود السلطان العظيم بيبرس. ودخلت المدينة في أبهة النصر واختيال القوة. وكانوا وهم يدخلون المدينة لا ينسون أنهم يلجون أكبر معقل بقي للنصارى في الشام بعد أن كانوا قد بسطوا أيديهم على ذلك القطر كله.
كان قائد الجند شابا في مقتبل العمر اسمه سلاميش لو رآه أحد في غير لباس الحرب لظنه أحد أبناء الملوك المنعمين. وجه مشرق إشراق الزهرة اليانعة، وقوام ممشوق كأنه رمح رديني، وعينه تلمع كأنها ريا بفرند سيف دمشقي. ولكنه كان في عدة الحرب عليه اللأمة والدروع وفي يده الرمح وفي منطقته السيف، ودخل على رأس الجنود فوق جواده الكريم ناظراً إلى الأمام معبسا جاداً والجنود من ورائه لا يلتفت أحد منهم إلى يمين أو إلى اليسار، ولا يتخلف أحد منهم عن طاعة الأمر بمقدار همسة هامس أو طرفة عين. وكانوا كلما